ARTICLE AD BOX
كانوا جميعًا جاهزين ببيانات الإدانة المعلّبة لما اعتبروه "معاداة السامية"، حيث بدأ ترامب العزف على أوتار السامية قبل الجوقة الصهيونية، دقائق قليلة فقط بعد حادثة إطلاق النار على اثنين من موظفي سفارة الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة.
مهارة الصهاينة في الابتزاز والاستثمار في الحوادث لا تُضاهى، إذ تحضر دائمًا لافتة "معاداة السامية" إن وقعت فرع شجرة على رأس إسرائيلي يتسكّع في حيفا، وتنتعش هذه المهارة أكثر كلما كانت حكومة الاحتلال الصهيوني بمواجهة اتهامات لها بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، على نحو ما يدور في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عامين إلا قليلًا.
مطلق النار على موظفي السفارة الإسرائيليين اسمه "رودريجز" ولم يكن إلا مواطنًا أميركيًا، من مدينة شيكاغو، ولم يشهد سجل حياته كلها (30 عاما) أيّة سوابق معروفة يعاقب عليها القانون، وقد فعل ما فعل ولم يهرب أو يختبئ بل بقي في مكانه ثابتًا ينتظر وصول الشرطة للقبض عليه وفخورًا بما اعتبره صرخة في وجه عالم ظالم كريه، يقف ضدّ الحق والحرية والإنسانية، يقف ضدّ فلسطين وشعبها وينحاز لمجرمي حرب وقتلة وسفاحين. تخيّل لو كان عربيًا أو من أصول عربية، ماذا كان يمكن أن يحدث؟.
هذه الصرخة لا يمكن لصاحب عقل أو ضمير أن يضع لها عنوان "معاداة السامية" بل الصحيح أنّها معاداة للفاشية والنازية الصهيونيتين، ومعاداة للإبادة الجماعية والتطهير العرقي لشعب فلسطيني تجري عملية إلغائه من الوجود، كما أنّ القتيلين لم يكونا سائحين إسرائيليين يتناولان القهوة، بل هما رمزان حقيقيان للحكومة الصهيونية التي حكمت عليها الجنائية والعدل الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية، تلك الجرائم التي ظلّت أوروبا، باستثناء إسبانيا تغمض عينيها عنها وتزوّد مرتكبيها بمزيد من أسلحة القتل ومظلات الحماية الدبلوماسية، حتى استيقظت حديثًا وقالت للإجرام الصهيوني كفى، وراحت تفرض عقوبات وإجراءات لإيقاف المذابح التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزّة.
قبل أن تتسلّم حكومة نتنياهو جثتي القتيلين، راحت تلقي بالمسؤولية على الدول الأوروبية التي استخدمت تعبير"الإبادة الجماعية" في توصيف ما يجري في غزّة، ثم عادت إلى الوراء لتتهم الجامعات الأميركية بالمشاركة في "الجريمة" لأنها سمحت لبعض الوقت بتظاهرات ضدّ مذابح جيش الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني، ثم ضمّت محكمة العدل والجنائية الدوليتين لقائمة الضالعين في العملية كونهما أصدرتا أحكامًا ضدّ مجرمي الحرب الإسرائيليين.
كلّ هذا الإمعان في استثمار الحادث لابتزاز العالم يعيد إلى الذاكرة قصص إغراق العصابات الصهيونية السفن الناقلة لموجات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين قبل النكبة، لكي تجبر الدول الغربية على رفع القيود عن أعداد المستعمرين الصهاينة المطلوب إحلالهم في فلسطين.
يريد الصهيوني، مستغلًا الحادث، أن يمحو الرواية الحقيقية لما جرى في غزّة، ويصفي حساباته مع الشارع العالمي الذي تظاهر في مدن أوروبا والعالم يهتف بالحرية والحياة لفلسطين، يريد أن يحذف من الذاكرة فصول الثورة العالمية على التاريخ المزوّر التي اندلعت في الجامعات الأميركية وميادين التظاهر في عواصم عديدة، والتي بعثت الإنسانية من مرقدها، وأعادت الاعتبار للحقّ والخير والجمال، ووضعت العالم أمام مرآة صادقة، وأسقطت الأقنعة عن جبابرة كذابين وقتلة، لم تهتز ضمائرهم أمام أكثر من خمسين ألف شهيد فلسطيني.
مسألة إشهار تهمة معاداة السامية بوجه كلّ من يندّد بجرائم الكيان الصهيوني ويطالب بإنهاء الاحتلال ويهتف بالحرية لفلسطين، صارت نكتة شديدة السماجة يطلقها قتلة ومصاصو دماء، ليسوا فقط معادين للسامية، بل معادين للإنسانية بإطلاق، مثل أولئك الذين فتحوا النار أوّل أمس على مجموعة كبيرة من السفراء والدبلوماسيين الذين ذهبوا للوقوف على أوضاع فلسطينيي الضفة الغربية والذين يتعرّضون للقتل والتهجير وهدم بيوتهم ومصادرتها.
ما فعله المواطن الأميركي هو ترجمة لغضب يشتعل في صدور عشرات الملايين من شباب العالم الذين يشاهدون العدالة والكرامة الإنسانية والحرية تذبح على عتبات البيت الأبيض، لا علاقة له بالسامية والعداء لها، بل وثيق الصلة بمسألة حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال.
