ARTICLE AD BOX
تنتشر في السنغال تجارة أدوية الملاريا المغشوشة، لتتفوق أرباحها على عوائد بيع المخدرات، إذ يستغل مهربون التراخي الأمني لإغراق البلاد بمستحضرات قاتلة يقبل عليها الفقراء بحثاً عن الأرخص وإن كانت فيه نهايتهم.
- توفت الأربعينية السنغالية سودة جوب بينما كانت في الطريق إلى مستشفى غراند أمبور Grand Mbour الحكومي، بعد معاناتها من حمى شديدة وصعوبة بالتنفس وفقدان الوعي، ومع ذلك أصر أقاربها على الذهاب للمستشفى في مدينة أمبور، غربي البلاد، من أجل التأكد من سبب الوفاة، ولدى وصولهم، أخبرت الأسرة الطبيب بأنها عانت من حمى وغثيان وقيء وصداع فتناولت دواء مضادا للملاريا يسمى كورتيم Coartem اشترته من أحد باعة العلاج المتجولين، ليرد عليهم بأن العلاج قد يكون مغشوشا بسبب انتشار المستحضرات المزورة في السوق السنغالية، وخاصة أن أعراض المرض اشتدت عليها في يوم تناولها الدواء، وهو استنتاج تفسره الدكتورة نغي انجي، التي تعمل بالتوعية في البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا التابع لوزارة الصحة السنغالية، قائلة إن "الدواء المغشوش الذي استخدمته سودة يحتوي على نسبة قليلة غالبا لا تصل إلى 10% من المادة الفعالة (المكون النشط القاتل للطفيليات التي تنتقل إلى البشر عبر لدغة بعوض يحمل عدوى المرض)، ما أدى إلى انتقال العدوى من الدم إلى الدماغ ومن ثم الوفاة".
وجراء استخدام أدوية مضادة للملاريا من نوعيات متدنية أو مغشوشة بالكامل يتوفى سنوياً ما بين 76 ألفاً و267 ألف شخص في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومن بينها السنغال، بحسب تقرير "الاتجار بالمنتجات الطبية في منطقة الساحل"، الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (ONUDC)، في فبراير/ شباط 2023، لافتاً إلى "اكتشاف نحو 40% من المنتجات الطبية متدنية الجودة والمغشوشة المبلغ عنها في بلدان الساحل بين عامي 2013 و2021 في سلاسل التوريد النظامية".
تجارة مربحة أكثر من المخدرات
تنتشر في السنغال نسخ مغشوشة من أدوية مضادة للملاريا، مثل كورتيم Coartem، وفانسيدار FANSIDAR، وفالسيمون FALCIMON، ويؤكد منسق البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا داود سين لـ"العربي الجديد"، أنها تسببت في نحو نصف وفيات الملاريا في عام 2023، فمن بين 7196 مصاباً توفي 199 شخصاً، 98 منهم بسبب الأدوية المغشوشة، بنسبة 49.2% من إجمالي الوفيات، ويضيف: "الأدوية المغشوشة تؤدي إلى فشل العلاج ومقاومة الميكروب المسبب للمرض للدواء، لأنها ليست بالجودة المطلوبة، والمصابون لا يميزون بين المغشوش والأصلي، فقط يشترون الأرخص، فمثلا دواء Coartem سعر الأصلي منه 5.78 دولارات أميركية، والمغشوش 3.21 دولارات".
نسخ متعددة من أدوية الملاريا المغشوشة تغرق السوق السنغالية
وتباع الأدوية المغشوشة بشكل غير قانوني في سوق عكاظ بمدينة طوبى وأسواق مدن أخرى مثل دكار التي وبسبب غياب الرقابة الصحية فيها تعد من أكثر المدن التي تنتشر فيها تلك النوعية القاتلة من الأدوية، بحسب ما يرصده عضو مجلس إدارة نقابة صيادلة القطاع الخاص في إقليم ديوربيل، وسط السنغال، الجمعة جوف، موضحاً لـ"العربي الجديد"، أن صيدليات غير قانونية تبيع أدوية بأسعار زهيدة وتبين أنها إما منتهية الصلاحية أو من نوعيات مزورة، ويتفق معه الصيدلي في مدينة طوبى مصطفى امبينغ، الذي يشير إلى اتجاه الكثير من تجار المخدرات في المدينة لتغيير نشاطهم وبيع الأدوية المغشوشة، إذ يحققون من خلالها مكاسب أكبر من نشاطهم الآخر غير القانوني، ولكن مع الفارق أن عملهم في الأدوية المغشوشة أقل خطراً في ظل غياب الرقابة الأمنية عن الأسواق غير النظامية.
على سبيل المثال، بمقارنة المضبوطات المعلنة من الأدوية المغشوشة والمخدرات في منافذ السنغال الجوية والبرية خلال النصف الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، يتبين الفارق الضخم بين المستحضرات المزورة البالغة 881 كيلوغراماً بقيمة إجمالية 108 ملايين فرنك أفريقي (مليون و728 ألف دولار أميركي)، والمخدرات المتحفظ عليها لم تتجاوز 2.7 كيلوغرام من القنب الهندي، بقيمة 12 مليون فرنك (20 ألف دولار)، وفق بيانات منشورة على الموقع الرسمي للمديرية العامة للجمارك السنغالية في 15 نوفمبر 2024 بعنوان "مكافحة الاتجار غير المشروع".
تفاصيل كميات الأدوية المغشوشة توضحها فرقة الجمارك البحرية السنغالية بمنطقة فاونديوجن، التابعة لفرع الساحل الجنوبي بالمديرية الإقليمية للوحدات البحرية، إذ توصلت إلى شخصين يقودان زورقاً قبالة سواحل دجيناك يحمل على متنه 59 صندوقاً فيها أدوية مغشوشة تزن 881 كيلوغراماً، كما يقول مدير المديرية العامة للجمارك السنغالية امبي إنجاي، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، إجراء تقييم دقيق للأدوية المغشوشة المضبوطة والتخلص منها حتى لا تتسرب إلى السوق، وبحسب إبراهيم إبراهيم اتيام، وهو أحد ضباط الفرقة المشاركة في العملية، بلغ عدد صناديق أدوية الملاريا المغشوشة 45 صندوقاً من بين إجمالي المضبوطات، ما يوضح حجم انتشار الظاهرة.
وتأكيدا على خطورة الظاهرة، يقول إنجاي، الكميات المضبوطة هائلة، ومن بين أكبرها حجما، عملية لفرق الجمارك السنغالية في شهر يوليو/تموز 2023، ضبطت خلالها أدوية مزيفة بقيمة 382 مليون فرنك (6 ملايين و596 ألف دولار) أثناء عمليات تفتيشية نفذتها نقاط التفتيش الجمركية في البلاد.
منافذ متعددة للتهريب
"ما بين 19% و50% من الأدوية في أسواق دول منطقة الساحل الأفريقية دون المستوى المطلوب أو مزورة"، بحسب تقرير "الاتجار بالمنتجات الطبية في منطقة الساحل"، الذي أوضح أن "الموانئ البحرية الرئيسية في غرب أفريقيا تستخدم لجلب الإمدادات الطبية المتجهة لدول الساحل، ومن ثم يتم تهريبها بعد ذلك براً. كما يتم نقل كميات صغيرة جواً باستخدام الشحنات البريدية أو الركاب"، وهو ما يؤكده خمسة من بائعي الأدوية المغشوشة في السنغال، منهم بَدَ امبينغ، الذي ينشط في مدينة دكار، مشيراً إلى وجود شبكة تهريب للأدوية تضم أشخاصاً يحملون جنسيات مختلفة، منهم سنغاليون وماليون، يهربونها إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء، مثل السنغال ومالي وموريتانيا وغينيا بيساو وغينيا، لافتاً إلى "تورط مجموعة واسعة من الفاعلين، بما في ذلك موظفو شركات الأدوية والمسؤولون العموميون وموظفو إنفاذ القانون والعاملون في الوكالات الصحية".
في مارس من كل عام ينتشر مرض الملاريا في قارة أفريقيا
وبعد وصول الأدوية المهربة عبر تلك الطرق، يقول سيدو جالو، مدير صيدلية التموين الوطنية (حكومية)، لـ"العربي الجديد": "يوزعها مهربون على دكار، غربي السنغال، وطوبى في وسط البلاد، وكولخ، جنوب غربي العاصمة، مستخدمين الحافلات والشاحنات والسيارات الخاصة، وهذه هي مراكز بيع الأدوية المزورة ومنها تصل إلى بقية أنحاء البلاد".
ولهذا السبب، طالب منسق البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا داود سين الجمارك بتكثيف جهود حماية الحدود البرية والجوية والبحرية لمنع انتشار الأدوية المزورة القاتلة، ويلفت في الوقت نفسه النظر إلى أن قلة مصانع الأدوية من بين أهم الأسباب الرئيسية لانتشار أدوية مغشوشة مضادة للملاريا، قائلاً: "لدينا في السنغال سبعة مصانع فقط تنتج 10% من الاحتياجات الدوائية، وهي نسبة قليلة تتسبب في ارتفاع أسعار الأدوية، ما يدفع المواطنين لتناول الأدوية المزورة الرخيصة".
وتعتمد دول الساحل بشكل كبير على واردات المنتجات الطبية إذ إن صناعاتها الدوائية لا تزال في المراحل الأولى من التطوير. فقد وصلت وارداتها عام 2019 إلى نحو 14 مليار دولار أميركي، مما يمثل ما بين 70 و90% من إجمالي الإنفاق الدوائي في أفريقيا جنوب الصحراء، وفق تقرير "الاتجار بالمنتجات الطبية في منطقة الساحل".
عجز حكومي عن مكافحة الظاهرة
في مارس/ آذار من كل عام ينتشر مرض الملاريا في قارة أفريقيا، وهو الأكثر فتكاً، خاصة بالأطفال، وتؤكد بيانات منظمة الصحة العالمية الموثقة عن عام 2023 وقوع 94% من مجموع حالات الإصابة بالملاريا عالمياً في أفريقيا، كما أن 95% من الوفيات الناجمة عنها في القارة ذاتها، ومثّل الأطفال دون سن الخامسة نحو 76% من مجموع الوفيات الناجمة عن المرض، ما يفتح الباب أمام بد امبينغ ورفاقه لبيع الأدوية المغشوشة، قائلاً إنه يعمل في دكار منذ عشر سنوات، محاولاً تبرير نشاطه غير المشروع بقوله إنه يبيع أدوية الملاريا المغشوشة لمساعدة الفقراء ومتوسطي الدخل ممن لا يملكون أموالاً لشراء الأدوية الأصلية باهظة الثمن.
غير أن الأرقام الرسمية تكذب تلك المزاعم، إذ يتوفى في السنغال عشرة آلاف شخص سنوياً جراء الأدوية المغشوشة، وفق بيان صادر عن وزارة الصحة السنغالية في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
ورغم هذا العدد الكبير من الوفيات لم تتخذ الجهات الرسمية إجراءات فاعلة لمنع التهريب، مثل مراقبة الحدود، فضلاً عن غياب الإرادة السياسية القوية لمواجهة انتشار الأدوية المغشوشة في البلاد، كما يقول رئيس نقابة صيادلة القطاع الخاص في السنغال Syndicat des pharmaciens prives du Sénégal حسن جوب، مطالباً بتغليظ عقوبة الاتجار بالأدوية المغشوشة، وسن قوانين جديدة تعاقب بسجن مهربي الأدوية المغشوشة من خمس إلى عشر سنوات، ودفع غرامة مالية كبيرة بتهمة القتل الخطأ وتعريض صحة الآخرين للخطر.
ويعاقب القانون الجنائي السنغالي كل من يهرب الأدوية ويبيعها بالسجن لمدة ستة أشهر وبغرامة مالية قدرها مليون و500 ألف فرنك (2590 دولاراً)، ويصف جوب العقوبة بأنها "بسيطة جداً، وليست لها فاعلية في الحد من انتشار تهريب الأدوية القاتلة والاتجار بها، ما جعلها أكثر خطراً من تجارة المخدرات"، مشيراً إلى ضرورة ملاحقة مهربي الأدوية المزورة، موضحاً أن النقابة تتعاون مع الشرطة والدرك لتفكيك شبكة مهربي الأدوية المغشوشة، لكن "هذا لا يكفي للحد من انتشار ظاهرة بيعها وخاصة في مدينتي دكار وطوبى الموبوءتين بشبكات تبيع تلك الأدوية بالجملة والمفرق".
وفي رده على سؤال "العربي الجديد"، لم ينف وزير الصحة السنغالية إبراهيم سي انتشار الأدوية المغشوشة في البلاد، لكنه يشير إلى اتخاذ الوزارة بالتعاون مع الجمارك والأمن إجراءات صارمة لمحاربتها، مثل تعزيز الرقابة الأمنية على الحدود، وتوعية المواطنين بخطورة استخدام الأدوية المغشوشة، والعمل على توفير أدوية جيدة بأسعار زهيدة"، لكن الأزمة مستمرة ويبدو أن أفق حلها لن يبدو قبل حلول عام 2035، إذ يقول الصيدلي سيدو جالو إن "الحكومة تسعى لإطلاق برنامج يهدف لإنتاج 50% من الأدوية المستعملة في البلاد في غضون عشرة أعوام"، وإلى أن تتحقق تلك الخطط على أرض الواقع تبقى آمال فقراء السنغال، ومن بينهم عائلة جوب، في ألا يصاب أحدهم بالمرض، وإن حدث ألا يقع في شراك دواء مغشوش فيه سم قاتل بدلاً من ترياق يحفظ الحياة.
