إيلون ماسك والرقص مع الطغاة

1 day ago 3
ARTICLE AD BOX

في الأيّام الأخيرة، وعلى نحو درامي يكاد لا يُصدّق، اندلعت ما تشبه الحرب بين دونالد ترامب وإيلون ماسك، الحليف الذي بدا ذات يوم الأقرب، والأكثر ولاءً، والأشدّ حماسةً لصعود الزعيم العائد. كان ماسك، الملياردير الذي لا يرضى أن يُصنَّف إلا أذكى رجل في الغرفة، قد التصق بترامب في لحظة بدا فيها هذا التحالف مربحًا ومنطقيًا لكلا الطرفين، حيث أغدق ماسك دعمه المادي بما يقرب من 288 مليون دولار على حملة ترامب الانتخابية طمعًا في النفوذ وتمرير أجندته. وبدوره، اكتسب ترامب واجهة تكنو-رأسمالية براقة تعزّز من ثورويته المزعومة في مواجهة مؤسسات الدولة العميقة.

لكن ما إن عاد ترامب إلى المشهد بقوّة، وبدأ يلوّح بسياسات اقتصادية تعيد تشكيل السوق أو بالأحرى تدميرها من أساسه، حتى بدأ ماسك يدرك أنّ السلطة التي اقترب منها أكثر من اللازم لم تكن، ربما، وسيلة لكسب الشهرة والنفوذ، بل أقصر طريق إلى الخسارة.

صَدَم الرئيس الأميركي العالم في الأوّل من إبريل/ نيسان بتعرفاته الجمركية، وتذمّر حينها ماسك ببعض اللباقة السياسية، ليتابع ترامب خططه ويعلن عن سياساته الضريبية الجديدة التي يبدو أنها تعاقب شركات السيارات الكهربائية، وتحابي حزب النفط والفحم وأي وقود أحفوري، يعتقد ترامب أنه سيعيد العظمة الأميركية المفقودة مجدّدًا كما يراها.

ماسك، الذي استفادت إمبراطوريته من الحوافز الحكومية ودعم التكنولوجيا الخضراء، وجد نفسه فجأة على قائمة ضحايا القادم الجديد، على الرغم من أنّ هذا الأمر كان واضحًا منذ البداية، ومن المفترض ألا يشكّل مفاجأة لماسك. ولكنه على ما يبدو لم يعد يتحمّل الخسائر المتتالية في القيمة السوقية لتسلا التي تنعكس مباشرة على ثروته الشخصية، والأهم أنه، ربما، أدرك أنه فقد الكثير من قيمة علامته الشخصية.

لا يملك الطغاة أصدقاء، بل مجرّد أدوات 

فلم تمرّ أيّام على مغادرته البيت الأبيض حتى انقلب على ترامب علنًا متحدّثًا عن خطر سياساته على الاقتصاد، إذ هاجم مشروع خفض الضرائب والإنفاق الشامل، متهمًا إياه بعرقلة الابتكار وزيادة عجز الميزانية، كما انتقد تقليص الإعفاءات على السيارات الكهربائية التي اعتبرها تهديدًا مباشرًا للاقتصاد الأميركي، وصعّد هجومه عندما اتهم ترامب بالتورّط في فضائح إبستين. وردّ ترامب بالتلويح بإنهاء العقود الحكومية مع شركات ماسك واتهمه بإدمان المخدرات. فهل كان ماسك ساذجًا حقًا إلى هذا الحدّ؟ أم أنه وقع في وهم أذناب الطغاة الأبدي، وهم الاعتقاد أنه الاستثناء؟

كلّ من خدم طاغية، ودعمه، وهلّل له، وظنّ أنه الاستثناء الأكثر دهاءً مُعتقدًا أنه سيخرج من اللعبة بغنائم لا تعدّ ولا تحصى لم يفهم أن الطغاة لا يملكون أصدقاء، بل مجرّد أدوات. وكلّ أداة مصيرها أن تُستخدم ثم تُلقى جانبًا، أو تُقدّم قربانًا على المذابح إن اقتضت مصلحة الطاغية ذلك.

تاريخ الطغاة مليء بحكايات مشابهة. فقد خدم مؤسّس جماعة فاغنر يفغيني بريغوجين وزعيمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سنوات في أوكرانيا وافريقيا وسورية. وما إن حاول التمرّد المحدود، حتى سقطت طائرته بطريقة يراها كثيرون رسالة من الكرملين. فالطغاة لا يغفرون التمرّد، ولو من أقرب الناس.

ولماذا نذهب بعيدًا، فمايكل كوهين كان محامي ترامب الشخصي والمخلص أكثر من عقد، ونفّذ كلّ ما طُلب منه، من صفقات تسوية إلى التستّر على الفضائح. ومع ذلك، حين بدأت التحقيقات، تبرّأ منه ترامب، وتركه يواجه السجن وحيدًا. حتى في الأنظمة التي تدّعي الديمقراطية، يضحي الطغاة المتغطرسون بأقرب حلفائهم بمجرّد أن يصبحوا عبئًا.

لا يبني الطغاة دولًا مزدهرة؛ إنما يحرقون أراضي الآخرين ليُزرعوا فيها أوهامهم

ومثلهم فعل هتلر برفيقه إرنست روم في ليلة السكاكين الطويلة، فالطغاة لا يسمحون لأيّ نفوذ موازٍ بالنجاة. ولطالما بنى الطغيان سلطته على الخوف والتصفية، لا على الوفاء، كما فعل ستالين بتروتسكي وزينوفييف وكامينيف. فالتاريخ يستمر في إخبارنا أنّ الثمن الذي يدفعه حلفاء الطغاة وأعوانهم قد يتراوح بين القتل الفوري أو المحاكمات الصورية المنتهية بانتقام شنيع، أو مصادرة الثروات، وأخيرًا الهروب إلى المنافي واللجوء والخذلان، هذا إن حالف الحظّ بعضهم.

ربما كان ماسك، مثل كثيرين ممّن وقعوا في الفخّ الأبدي لعشق السلطة وعلقوا في براثن وهم أنّ الذكاء الفردي والثروة يمكنهما تحييد منطق الطغيان. لكن ما بدأ تحالفَ مصلحة بين رجل أعمال يدّعي العبقرية وزعيم شعبوي لربما سيتحوّل إلى درسٍ قاسٍ آخر، مفاده أنّ القرب من اللهب لا يعني امتلاكه، بل يعني احتراقًا بطيئًا. فالطغاة لا يبنون دولًا مزدهرة؛ إنما يحرقون أراضي الآخرين ليزرعوا فيها أوهامهم.

المفارقة الكبرى هنا أن ماسك، الذي لطالما راهن على تكنولوجيا المستقبل، وقع في فخّ الماضي، فكلّ من تعاون مع طاغٍ ظنّ أنه سيسيطر على النار، لكن هذه النار لا يُسيطَر عليها، إنها تُعيد تشكيل كلّ مَن يقترب منها مؤقتًا حتى تنتفي الحاجة إليه أو إليها قبل أن تلفظهم رمادًا، ومصير كلّ من يركب قطار الطغيان سيظلّ كما هو، إما أن يُلقى به تحت عجلاته الفولاذية، أو يُلقى به لاحقًا في مزابل التاريخ.

Read Entire Article