اقتُلني من فضلك

2 weeks ago 5
ARTICLE AD BOX

كالعادة، تؤكّد الحوادث والفواجع ما ذهب إليه العلم والطب، وتُفسّر لك ما مررتَ به من خبراتٍ سابقة كنت تعتقد أنّها مجرّد مصادفة، أو أنّها من باب التهويل حين رواها الآخرون. قد تجزم بأنّهم بالغوا في وصفها، ولكن منها ما رواه أحدهم عن مشاهدته بأُمّ عينه شعر رجل يتحوّل في لمح البصر إلى اللون الأبيض، حين كان يقف على شاطئ البحر يشاهد سفينة عملاقة تغرق، وقد كان على متنها شقيقه.

أما الرّواية الأخرى، فهي التي نقلتها أُمّي، حيث تحدّثت عن شعر خالي الذي كان أصغر إخوته، وكان وقتها فتى في السابعة عشرة عاماً، وتحوّل فجأة إلى اللون الأبيض، ولم يعُد قادراً على المشي إلا مُنحنياً. حدث ذلك عند بسط سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على كل القطاع عام 1967، وتخوّف الناس من ارتكاب مجازر كما حدث عام 1956.

أما الحادثة الثالثة، فقد رواها أحد الآباء عن مشيب شعر طفلته وظهور بقع البُهاق في جسمها، بعد أن وقعت تحت أقدام حمار جارهم، فيما كانت في طريق عودتها من المدرسة. كانت زميلاتها قد مازحنها مزاحاً ثقيلاً، فدفعنها في أثناء سيرها معهن لتسقط بين أقدام الحمار على حين غفلة.

ثلاثة حوادث مُتتالية سمعت عنها، وأكّدت تماماً ما ذهب إليه العلم والطب، وإن كان أجدادنا لم يتوقّفوا عن تحذيرنا من الانجرار وراء كلام الأطبّاء الذين يبالغون ويهوّلون ليقتلوا الإنسان وهمًا. حيث تأكّدت بالفعل أن مشيب الشعر وتغيّر لون الجلد، كأحد أعراض الإصابة بمرض البهاق، يعودان إلى أسباب نفسيّة.

حدث ذلك أخيراً مع طفلة في غزّة، حيث تحوّل شعر الطفلة لانا الشريف إلى اللون الأبيض، وكأنّها سيّدة طاعنة في السنّ، فيما ظهر البهاق على جلدها، نتيجة تعرّضها للخوف الشديد من أصوات القصف المستمرّة ليلاً ونهاراً حولها.

التفسير العلمي للإصابة بالمشيب المُبكر، وظهور بقع البهاق البيضاء على الجلد فجأة، هو حدوث خلل مُفاجئ، ونشاط غير طبيعي في جهاز المناعة، ما يؤدّي إلى خروج أجسام مضادّة، تهاجم الخلايا الصبغيّة المسؤولة عن منح الجلد والشعر لونهما الطبيعي. وفي حالة مرض البُهاق الوراثي، فإن تعرّض الإنسان لصدمة نفسيّة، أو خوف مفاجئ في أيّة مرحلة عمريّة، قد يؤدّي إلى تحفيز الجين المسؤول عن المرض وزيادة نشاطه، ما يجعله عرضةً لظهور أعراض البهاق فجأة، صغيراً كان أو كبيراً.

ترمز الطفلة الجميلة لانا الشريف إلى معاناة أطفال غزّة الذين يكابدون كل أنواع الخوف، إلى جانب ما يعانونه من سوء التغذية وانتشار الأمراض بينهم. ومع تفاقم معاناة هؤلاء الأطفال، من الطبيعي أن تراهم قد كبروا قبل الأوان، وأصبحوا يطلبون الموت وهم زهور الحياة.

ذلك ما نقله طبيب، مُسجّلاً رجاءً مُؤلماً على لسان أحد الأطفال الناجين من مجزرة المطعم قبل أيام في مدينة غزّة، حيث ألحّ على الطبيب بقوله: "اقتلني يا دكتور... لا أريد أن أعيش".

يدرك أطفال غزّة ما ينتظرهم إذا تعرّضوا للإصابة في أثناء القصف العشوائي الذي يطاول الخيام والشوارع، ففي حال نجاتهم من الموت اللحظي، قد يجد الواحد منهم نفسه الناجي الوحيد من عائلته، وعليه أن يواجه الحياة بلا أمّ أو أبٍ أو إخوة، وهذا يعني موتًا بطيئًا. وربما يفقد الطفل بصره أو أحد أطرافه، مما يجعله يتمنّى الموت كل لحظة، ويأسف لأنه لم يمت، ليرتاح من المعاناة مع عاهة مستديمة في حياته القادمة.

فقد أكثر من ألفي شخص أبصارهم بسبب القصف منذ بداية الحرب، فيما سجلت 32,000 حالة بتْر للأطراف، معظمها من الأطفال، مما يطيل من قائمة الأطفال الأبرياء الذين يطلبون الموت بدلًا من الحياة في عالم لا يعترف بإنسانيتهم.

Read Entire Article