الأخضر قريسي.. رحلة المنطق من الفلسفة إلى البرمجة

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة كتاب بعنوان "مدخل إلى المنطق الرياضي" للباحث الجزائري الأخضر قريسي، ويستكمل ما بدأه المؤلّف في كتابه السابق "مدخل إلى المنطق التقليدي" (2021).

يستعرض الكتاب، الواقع في 329 صفحة، الانتقال التاريخي والفكري للمنطق من حقل الفلسفة إلى ميدان العلم، حيث بات المنطق يُصاغ بلغته الجديدة: الرموز، والأنساق، والصور الرياضية الدقيقة. ويرى المؤلف أنّ هذه النقلة تصبح في عصر الذكاء الاصطناعي والمعلوماتية أكثر من تحوّل معرفي؛ فهي ضرورة بيداغوجية تمكّن الطلّاب والباحثين من فهم منطق "الآلات" و"الخوارزميات" التي باتت تحكم عالمهم.

ويقدّم المؤلف الكتابَ بوصفه أداة تعليمية مبسّطة، تجمع بين الصرامة المنهجية والوضوح المفهومي، متجنّباً الغرق في الجدل الفلسفي أو المفاهيم المجردة التي قد تنفّر المبتدئين. ويوضح أن اختيار مصطلح "المنطق الرياضي" لم يكن مجرّد تفصيل لغوي، بل هو إعلان لميلاد نسق جديد من التفكير، يتجاوز التسميات المعتادة مثل "المنطق الصوري" أو "الرمزي"، ليعبّر عن جوهر هذا النسق في قلب الرياضيات، الذي طوّره مفكّرون أمثال غوتفريد لايبنتز وجوتلوب فريجه وبرتراند راسل وألفريد وايتهد، ولا سيما في عمل الأخيرَين المشترك "أُسس الرياضيات". فهؤلاء لم يطوّروا المنطق فحسب، بل أعادوا تأسيسه بوصفه علماً مستقلّاً، صارم البنية، قابلاً للبرمجة، ومؤهّلاً لأن يكون "لغة العقل الكونية".

منهج مبسّط وصارم لتدريس المنطق الرياضي في الجامعات

يُستهلّ الكتاب بالقسم الأول الذي يتناول أهمّ ركنين من أركان المنطق الرياضي: حساب القضايا وحساب المحمولات. فيشرح المؤلّف، في مبحث حساب القضايا، طبيعة القضية وتمييزها من دالة القضية، والفرق بين اللزوم المادي واللزوم الصوري، مقدّماً أدوات مثل جداول الصدق، والصيغ المنطقية، والثوابت الرمزية، ومدعّماً الشرح بأمثلة تطبيقية واضحة. أما في حساب المحمولات، فيدخل القارئ إلى عالم التكميم: الكلّي والوجودي، ويبيّن الفارق بين الدوالّ المنطقية والدوالّ الرياضية، ويشرح طرائق البرهنة بالاستنتاج الطبيعي وبالأشجار المنطقية، مع نماذج عملية تبسّط المفاهيم.

وينتقل، في القسم الثاني، إلى مبحثَين متّصلَين بالمنطق التطبيقي: حساب الفئات وحساب العلاقات، متدرّجاً من المفاهيم الأولية للفئات إلى العمليات المنطقية المعقّدة، مبرزاً خصائص الفئات والعلاقات، لينتهي بتحليل العلاقة الثنائية وعلاقتها بالتكافؤ والترتيب. هنا يلتقي المنطق بالرياضيات البحت في أدقّ صورها، حيث لا تعالج الكيانات من حيث معناها، بل من حيث موقعها ضمن نسق رمزي قابل للتعميم والتطبيق.

يُختتم الكتاب بملاحق مهمّة تتضمن ثبتاً للمصطلحات والمراجع، يرى المؤلف أنها تؤكّد طابعه الأكاديمي والدقة المنهجية التي تحكم بناءه، وتجعله مدخلاً تأسيسيّاً لا غنى عنه لطلبة المنطق والفلسفة والرياضيات والعلوم الحاسوبية.

لا يسعى المؤلّف في عرضه للكتاب، للتبشير بـ"نهاية الفلسفة" كما توهّم بعض الحداثيين، بل يسعى لإظهار المنطق في ثوبه الرياضي بوصفه أداة تحليل، تتجاوز "القياس الأرسطي" إلى صيغ أشد مرونة وقدرة على تمثيل الواقع المعقّد، وأكثر قابلية للبرمجة والمعالجة الآلية.

فهذا "الحساب المنطقي"، وإن لم يكن عدديّاً، فإنه قابلٌ للتطبيق الحاسوبي، لأنه يشتغل على قيمتَي الصدق والكذب وفق نسق رمزي دقيق. وقد تحقّق بذلك حلم لايبنتز، الذي كان أوّل من تخيّل آلةً تحسم الخلافات الفكرية بقواعد منطقية لا تترك مجالاً للهوى أو الظن. لقد أعاد المنطق الرياضي تعريف القضية المنطقية، وحرّرها من نموذجها التقليدي. وأعاد فريجه تصنيف القضايا العامة بوصفها شرطية متصلة، لا حملية بسيطة، ما سمح بإدخالها في نسق استدلالي جديد. إنه منطق لا يحتكم إلى بدهيات مسبقة، بل إلى بنى استنتاجية محض، تفكّر في العلاقة، لا في الجوهر، وفي التركيب، لا في المعنى. من هنا جاء طابعه العلمي، الذي جعله جزءاً لا يتجزأ من علوم الحوسبة والذكاء الاصطناعي والرياضيات الحديثة.

الأخضر غريسي باحث وأكاديمي جزائري حاصل على دكتوراه العلوم في الفلسفة. شغل مناصب أكاديمية متنوعة، منها أستاذ ومفتش ورئيس قسم الفلسفة في "جامعة سطيف" الثانية بالجزائر، وترأس مشروعاً جامعيّاً حول الفلسفة والذكاء الاصطناعي. أشرف على أطروحات ماستر ودكتوراه، وهو باحث في المنطق وفلسفة العلوم. شارك في ندوات دولية، وله مؤلفات منها: "جدل التحقيق والتكذيب"، و"مدخل إلى المنطق التقليدي".

Read Entire Article