ARTICLE AD BOX
في ظل التصعيد المتجدّد في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، تجد شركات التجارة الإلكترونية الصينية نفسها أمام معادلة صعبة: الحفاظ على سوق أميركية مربحة لكنّها مهدّدة، أم المغامرة في أسواق بديلة مثل أوروبا، التي تبدو أكثر تعقيداً وتنظيماً؟، وتتجه أنظار منصات عملاقة مثل "شي إن" و "تيمو" و"تيك-توك شوب"، إلى السوق الأوروبية بصفتها خياراً استراتيجياً في وجه سياسات جمركية أميركية متشدّدة.
وبعد إعلان دونالد ترامب عن نيته فرض رسوم جمركية تصل إلى 145% على الواردات الصينية، وإلغاء إعفاء "دي مينيميس" الذي كان يُسهل دخول الطرود الصغيرة إلى السوق الأميركية دون ضرائب. ومع تعليق إدارة ترامب بعض الرسوم الجمركية لمدة 90 يوماً، سارعت الشركة إلى تقديم طلبات إنتاج جديدة لمصانعها وحجزت مساحات حاويات لشحن بضائع تغطي أشهراً عدّة إضافية إلى الولايات المتحدة.
هذه الإجراءات كانت بمثابة زلزال لشركات صينية مثل الشركة التي يعمل فيها هوانغ لون، المهندس في مدينة غوانزو، التي تعتمد بنسبة 70% من مبيعاتها على السوق الأميركية. ومع التهديدات الجمركية، كُلّف هوانغ بالبحث عن أسواق جديدة، أبرزها أوروبا وأستراليا، وفقاً لما ذكرته وكالة "بلومبيرغ". وتُعد شركة هوانغ واحدة من مئات الآلاف من الشركات التي تشحن مجتمعة بضائع بمليارات الدولارات إلى الولايات المتحدة، مستفيدة من الأسواق الرقمية، وعمليات التصنيع الصينية منخفضة التكلفة ومرتفعة الحجم، وشهية المستهلكين الأميركيين النهمة للملابس والإلكترونيات والألعاب والأدوات المنزلية الرخيصة، ومن إعفاء "دي مينيميس" من الضرائب على الواردات ذات القيمة المنخفضة.
ولتقليل المخاطر، تقوم منصات التجارة الإلكترونية الصينية بتحويل مواردها إلى أوروبا وأسواق أخرى، وتنفق بكثافة على العروض الترويجية في محاولة لجذب المستهلكين الأوروبيين. ومع ذلك، قد يتأخر هذا التدفق، فالتجار في الصين يركزون أكثر على تعزيز أسواقهم الأساسية في الولايات المتحدة، مفضلين خوض مخاطر أعلى وهوامش ربح أقل بدلاً من مواجهة تعقيدات وبيروقراطية أوروبا.
أوروبا... البديل المنطقي لكن غير السهل
بدأت "شي إن" و"تيمو" بتحويل مواردهما نحو أوروبا، حيث ضاعفتا حجم الإعلانات الإلكترونية، وشرعتا في تقديم دعم مالي مباشر للبائعين والمستهلكين. وبحسب بيانات من شركة تحليلات الإعلانات App-Growing Global فقد انخفض عدد الإعلانات الجديدة التي حجزتها "شي إن" و"تيمو" في السوق الأميركية بأكثر من 90% خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من مايو، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وخلال الشهرين الماضيين، ارتفع حجم الإعلانات الشهرية لـ"تيمو" في أوروبا بمقدار 12 مرة مقارنة بالعام السابق، وأكثر من أربع مرات في المملكة المتحدة.
وبعد إعلان ترامب، رفع العديد من البائعين الصينيين على منصات التجارة الإلكترونية أسعارهم في الولايات المتحدة، فقد ارتفع السعر المتوسط لـ98 منتجاً على "شي إن"، تتبعها بلوميبرغ نيوز، بأكثر من 20% بحلول أوائل شهر مايو/أيار مقارنة بأسبوعَين سابقَين. ووفقاً لبيانات "بلومبرغ سيكند ميجر"، التي تحلّل بيانات بطاقات الائتمان والخصم في الولايات المتحدة، فإن المبيعات المُلاحظة على "شي إن" انخفضت بنسبة 16% خلال 28 يوماً انتهت في 22 مايو/أيار مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، أما مبيعات "تيمو" فقد تراجعت بنسبة 19% تقريباً خلال نفس الفترة مقارنة بمستويات عام 2024.
وقد عرضت "تيمو" و"شي إن" و"تيك توك" دفع جزء أو كامل تكاليف الشحن إلى الأسواق الأوروبية، بالإضافة إلى دعم مباشر لبعض المشتريات. وقال بعض التجار الذين تحدثوا إلى "بلومبيرغ" إن تيمو عرضت دعماً بقيمة 2.99 يورو (3.38 دولارات) على الطلبات التي تقل عن 30 يورو، بينما كانت "تيك توك" مستعدة لدعم المبيعات عبر متجرها الجديد في المملكة المتحدة بمبلغ 3.48 جنيهات إسترلينية (4.66 دولارات).
حواجز أوروبا التنظيمية: مقصودة أم ضرورية؟
يرى العديد من المحللين أن العقبات التي تواجهها الشركات الصينية في أوروبا ليست مصادفة، بل جزء من سياسات حمائية أوروبية تهدف لحماية الصناعة المحلية والمستهلك، وقد فتحت المفوضية الأوروبية تحقيقات رسمية بحقّ هذه الشركات، بتهم تتعلق ببيع منتجات غير قانونية، أو استخدام واجهات مستخدم مضلّلة وممارسات تسويقية وهمية.
وتواجه "شي إن" إنذاراً قد ينتهي بفرض غرامات كبيرة، بعد اتهامها بتقديم خصومات كاذبة ومعلومات زائفة عن الاستدامة البيئية، وهي قضايا تثير اهتماماً خاصاً في الأسواق الأوروبية ذات الحساسية تجاه معايير الاستهلاك الأخلاقي والمستدام. وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم "شي إن" إن الشركة "ملتزمة تماماً بضمان أن المنتجات التي نقدمها آمنة ومتوافقة"، وأنها تستثمر 15 مليون دولار هذا العام في مبادرات السلامة والامتثال، وتُجري 2.5 مليون اختبار سلامة وجودة، وتوسّع شراكاتها مع وكالات الاختبار، وفقاً لـ"بلومبيرغ".
وعادةً ما يجادل صانعو السياسات بأن تطبيق المعايير الأوروبية يحمي المستهلكين ويمنع المنتجات المستوردة من تقويض الشركات المصنعة المحلية من خلال إنتاج سلع دون المستوى أو غير آمنة، والأمر يتعلق فقط بضمان أن الجميع يلتزم بالقواعد نفسها. وعندما اختبر مجلس دارمشتات الإقليمي، وهو سلطة إقليمية في ألمانيا، 800 منتج من منصات التجارة الإلكترونية الآسيوية، وجد أن 95% منها لا تفي بالمعايير الأوروبية.
وأطلقت المفوضية الأوروبية مبادرة جديدة تُسمى "مناطق الرقابة ذات الأولوية" لإجراء عمليات تفتيش مفاجئة عابرة للحدود، كما أطلقت أداة لتتبع الإنترنت، تأمل أن تساعد في التعرف على المنتجات الضارة المدرجة في مواقع التجارة الإلكترونية. وتشمل الحلول الأخرى التي تُناقش في المفوضية فرض رسوم معالجة على المنصات، وتنفيذ جواز سفر رقمي للمنتجات، قد يوفر شفافية في سلسلة التوريد من خلال رمز QR مرتبط بمعلومات مفصلة عن المنتج. والاتحاد الأوروبي بصدد مراجعة قواعد أكثر صرامة، وإلغاء الإعفاء الجمركي للطرود التي تقل عن 150 يورو، ولكن بما أن الولايات المتحدة قد ألغت بالفعل الإعفاء الخاص بها في مايو/أيار، هناك خطر من أن يستغل تجار التجارة الإلكترونية الآن أوروبا سوقاً لتصريف المنتجات طالما أن ذلك لا يزال ممكناً.
مستقبل غير واضح المعالم
المفارقة أن أغلب التجار الصينيين باتوا يشعرون بأنهم عالقون بين مطرقة القيود الأميركية وسندان البيروقراطية الأوروبية. فبعد سنوات من بناء سلاسل إمدادهم في السوق الأميركية، والتأقلم مع مزاج المستهلك الأميركي، يشعرون بأن التحول الكامل نحو أوروبا قد يكون مكلفاً وغير مضمون العائد. ويختصر رئيس جمعية التجارة الإلكترونية العابرة للحدود في شنجن، وانغ شين، الموقف بالقول: "الاستثمار السابق في السوق الأميركية أصبح بمثابة تكلفة غارقة لا يمكن تجاهلها. الآن، الهدف هو الحفاظ على تدفق السيولة والاستمرار. أوروبا خيار استراتيجي، لكنها ليست أولوية عاجلة".
ومستقبل نظام الرسوم الجمركية الأميركي غير مؤكد، ففي أواخر مايو/أيار، قضت محكمة بأن ضرائب الاستيراد التي فرضتها إدارة ترامب كانت غير قانونية، وقد استأنفت الحكومة القرار. أما بالنسبة للتجار، سيكون توقيت أي تحول قصير المدى نحو أوروبا محدداً بالمقياس البسيط لأرقام الرسوم الجمركية الأميركية، وعندما جرى تحديد الرسوم الجمركية بنسبة 54% كان ذلك هو الحد الذي لم يعد بإمكان معظم المصدرين تحقيق أرباح عنده.
وفي الوقت الذي تسعى فيه الصين لحماية تجارتها الإلكترونية من تقلبات السياسات الأميركية، تبدو أوروبا بديلاً منطقياً لكنّه معقّد، ويتطلب استعداداً طويل الأمد وقدرة على التكيف مع بيئة تنظيمية شديدة التقييد. وحتى إشعار آخر، ستظل السوق الأميركية، رغم مخاطرها، الخيارَ الأكثر جاذبية للتجار الصينيين، ولو على حساب التنويع الجغرافي الآمن.
