ARTICLE AD BOX
على هامش الحرب العدوانية المفاجئة التي شنّتها إسرائيل على إيران منذ أيام، يلاحظ المراقب للفضاء العام في العراق نتيجةً مؤسفةً: تراجعت حرية التعبير إلى حدود متدنّية غير مسبوقة، حتى ساد اللون الواحد والصوت الواحد. لم تتحقّق هذه النتيجة فجأةً، بل جاءت على مراحل، فصانع القرار السياسي في العراق يستثمر الأحداث العامّة، في كلّ مرّة، لإيجاد معايير تحدّد الشرفاء والخونة، ثمّ يتكفّل مدوّنون مأجورون بنشر هذه المعايير الغريبة في مواقع التواصل ووسائل الإعلام. ويرافق ذلك "انتخاب" أعداء مفترضين لخوض صراعات معهم، أو "ابتداعهم" إن لم يكونوا موجودين.
بعد يومين من بدء العدوان الإسرائيلي على إيران، انتشرت تصريحات منسوبة إلى عضو في هيئة الإعلام والاتصالات يطلب فيها "إرسال روابط منشورات الداعمين للكيان الغاصب لاتخاذ اللازم"، رغم أنه لا يوجد داخل العراق من تنطبق عليه هذه الصفة، بل هناك موقف عداء تقليدي اجتماعي، ديني وسياسي وإعلامي، تجاه إسرائيل وما ترتكبه من جرائم منذ عقود، ولا يحتاج هذا الموقف تزكيةً من أحد، ولا توجيهات. لكنّ أصحاب الخطاب التخويني يقصدون شيئاً آخر؛ تضييق الخناق على من ينتقد إيران، وهو ما يترجم عملياً بترسيخ سلطة أذرع إيران السياسية والعسكرية ضمن استثمار الأحداث لمصالح سياسية محلّية. والمفارقة أن هؤلاء التخوينيين الذين يناصرون إيران، ويتبعون أوامرها، لم يفعلوا شيئاً لنصرتها في حربها المفتوحة مع إسرائيل، سوى الجلوس خلف شاشاتهم وتوزيع الاتهامات، أخطرها "العمالة لأميركا أو لإسرائيل".
المفارقة الأكبر أن هناك عملاء فعليين لإسرائيل وأميركا داخل العراق وإيران، وكان لهم دور حسّاس في نجاحات إسرائيل، وهو أخطر ملفّ في هذه المواجهة، لأن الفارق التقني والعسكري مفهوم، لكن ضعف الداخل هو العجيب. أبرز مثال كان اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، الذي بدا أشبه بأفلام الخيال العلمي، وكان متوقّعاً أن تنتبه السلطة في إيران إلى هذا الاختراق في وقتها، لكنّها (في ضوء أحداث الأيام الماضية) لم تفعل على ما يبدو ما يكفي للسيطرة عليه.
ليس العملاء في المقاهي والجامعات أو في الدوائر الحكومية. والعميل ليس هو ذلك المواطن الذي يصحو صباحاً ويصنع فنجان قهوة، ثمّ يفتح هاتفه المحمول ليقرأ الأخبار، ثمّ يكتب شيئاً يعبّر به عن رأيه، ويصادف أن يكون رأياً لا يعجب تيّارات الإسلام السياسي الموالية لإيران في العراق. العميل موجود داخل دوائر السلطة، ولديه صلاحيات الحصول على المعلومات الحسّاسة التي تريدها إسرائيل أو أميركا، أو أيّ دولة أخرى تدفع جيّداً. من حقّ القانون معاقبة من يمارس نشاطات تطبيعية صريحة مع إسرائيل داخل العراق، والموقف الرسمي دان الهجوم على إيران، وضدّ العدوان الإسرائيلي في المنطقة، وكذلك موقفا مرجعية النجف ومقتدى الصدر، وهؤلاء الثلاثة هم الأكثر نفوذاً وتأثيراً على الشارع العراقي، لكنّهم، على خلاف المحور الإيراني، لا يريدون للعراق أن ينجرّ إلى الصراع، بل أن يساهم مع دول الخليج وتركيا في إنهاء هذه الحرب المدمّرة.
نقف مع إيران وشعبها في هذه الحرب الظالمة لأسباب أخلاقية وإنسانية واجتماعية ودينية، ولأن زعزعة النظام الإيراني ستؤثّر سالباً في العراق أكثر من أيّ دولة أخرى، لكن حرية التعبير مكفولة بالدستور العراقي، ومن حقّ العراقيين انتقاد ما قامت به النُّخبة السياسية خلال 20 عاماً من ربط العراق بإيران، خصوصاً في ملفّ الطاقة وفتح الباب للنشاط الاستخباراتي والأمني الأجنبي من دون رادع. من حقّهم التساؤل: لماذا لا يعدّل البرلمان اتفاقية صوفا مع أميركا، ليكسب العراق حرية أكبر في تسليح دفاعاته الجوية، وغيرها من قضايا حيوية تحتاج مناقشةً علنيةً بعيداً من التخوين وتهمة العمالة.
