ARTICLE AD BOX
تجري هذه السنة الانتخابات البلدية في لبنان بعد تسع سنوات من الغياب، إذ كانت المرّة الأخيرة في مايو/ أيار 2016، أذكر أنّ انتخابات المحافظة التي أصوّت فيها كانت في 15 مايو/ أيار 2016، قبل يومين فحسب من أن تنقلب حياتي رأساً على عقب.
رغم أنّ الانتخابات البلدية من المفترض أن تُجرى كلّ ستّ سنوات، إلّا أنّ الاستحقاق تأجّل ثلاث مرات: أولاً عام 2022 لتزامنه مع الانتخابات النيابية، ثم في 2023 بسبب نقص التمويل، وأخيراً في 2024 نتيجة الحرب الإسرائيلية على لبنان، ليُحدّد موعدها أخيراً في مايو/ أيار 2025. هذا التأجيل الطويل جعل العودة إلى صناديق الاقتراع حدثاً استثنائياً، خاصّة وسط الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة التي يعيشها البلد، ما أضفى حماساً خاصاً للاستحقاق البلدي في مختلف البلدات.
أتذكّر تاريخ الانتخابات البلدية الماضية جيّداً، رغم أنني لا أجيد حفظ التواريخ والأرقام عادة. ولكن ذلك التاريخ محفور في ذاكرتي. يُقال إنّ لحظات الحزن ترسخ في الذاكرة أكثر من لحظات الفرح، كيف أنسى أنّ الانتخابات البلدية الماضية سبقت فاجعتي الكبرى بيومَين فحسب.
تسع سنوات مرّت كأنها كابوس ثقيل. حتى بعد كلّ هذه المدّة، ما زالت هناك أحداث وأشياء أجد نفسي أقول فيها: "هذه هي المرة الأولى التي أعيشها من دون أبي". فهذه كانت أوّل انتخابات بلدية لا يشارك فيها والدي، الذي ودّع أهله وبلدته، غريفة في قضاء الشوف، الوداع الأخير قبل يومَين من رحيله. ذهب إلى البلدة على قدميه في 15 مايو/ أيار 2016، ثم عاد إليها محمولاً ودُفن فيها بعد أيّام قليلة.
من المؤلم أن تستمرّ الحياة من دون مَن نحب
لم أستطع أن أشارك الحماس الجماهيري للانتخابات بعد كلّ هذه السنوات، إذ ظللت مشغولة بالقلق والتوتّر كلّما اقترب موعدها، كأنني أعيش الفراق من جديد. وكلّ عام في مثل هذا الوقت أكتشف أنّ وجع الفقدان لا ينتهي، بل يتغيّر شكله فحسب.
أرى أبي في سلام عابر من ضيف يزور مكتبي في العمل، أو ضحكة صديق، أو حتى في ملامحي. أشم رائحته في عطره الذي ما زلت أحتفظ به وأستخدمه أحياناً، وأتذكره في أغنيات كان يحبّها أو يغنيها في المناسبات العائلية. أستعيد حضوره في كرسي المكتب الذي كان يجلس عليه، أو في حلم عابر، لكن أكثر ما يذكّرني به هو حبّ الناس له، وانعكاس ملامحه في وجهي: في العيون، والأنف، والحواجب، وحتى الأظافر.
أتساءل أحياناً: كيف أستطيع تذكّر كلّ هذه التفاصيل، بينما أعجز عن تذكّر صوته على نحوٍ واضح؟ لم ينخرط والدي في عالم التواصل الاجتماعي ولم يعتد إرسال الرسائل الصوتية، فليس لدي أيّ تسجيل صوتيّ له أستطيع العودة إليه لسماع صوته. ظلّ حتى آخر أيامه متمسّكاً بهاتف "نوكيا"، أو هاتف "أبو لمبة" الشهير في لبنان. أكتفي بصوته الذي يزورني في الأحلام بين الحين والآخر.
ما زلت أراقب رقم هاتفه الذي أصبح ملكاً لشخص آخر، وأحفظه عن ظهر قلب رغم أنني لا أحفظ الأرقام عادة. كيف لا؟ وهذا الرقم تحديداً كان رقم الطوارئ في حياتي لنحو عشرين عاماً. في كلّ مرّة، أحاول أن أجمع شجاعتي لأطلب الرقم وأتمنى شراءه من صاحبه حتى يتسنّى لي استعادته، واستعادة لو جزء صغير من ذكرياتي مع والدي، لكن حتى اليوم، لم أستطيع فعل ذلك.
كتبت مادة طويلة عن فراق والدي في الذكرى السادسة لرحيله. كانت المرّة الأولى التي أستطيع أن أعبّر فيها عن مشاعري وأصيغها بكلمات. ظننت أنّ الكتابة ستخفّف الألم وتتيح لي أن أطوي صفحة الوجع، لكنها لم تفعل. خضعت للعلاج النفسي، وسافرت أكثر من مرّة بمفردي في رحلات أسميتها في داخلي "رحلات إغلاق الصفحة"، وحاولت مراراً أن أبدأ من جديد، لكن لا شيء يطوي صفحة الحزن بالكامل، أكتب اليوم من جديد وأنا على يقين أنّ هذه المادة أيضاً لن تجدي نفعاً ولن تنهي الألم.
يبقى الحزن جزءاً منّا، يرافقنا في تفاصيل الحياة، ويُعيد تشكيلنا مع كلّ ذكرى
وأنا في طريقي إلى المنزل بعد أن أدليت بصوتي في الانتخابات البلدية، غلبتني الدموع على وقع أغنية ربيع الأسمر: "لو تعرف على قلبي غلاك، تعذر حنيني، كان اللي بقلبي بكاك وارتاحت عيني، لكن عيني اللي بتهواك ما بتخليني، أتمرّد لحظة وأنساك، مهما تنسيني"، كانت إحدى الأغنيات التي يحبّها أبي، وكلما سمعتها عادت بي الذكريات إليه.
أتخيّل أحياناً كيف كانت حياتي ستتغيّر لو لم يدخل الحزن قلبي مبكّراً، وأين كنت سأكون اليوم. أفكّر في كلّ الموت الذي يُحيط بنا، والخوف الذي أصبح يُلاحقنا في كلّ لحظة، أن نخسر أحبائنا وأحد أفراد عائلتنا.
ما أصبحت متأكّدة منه أنّ الحزن لا يزول، بل يتبدّل مع الوقت. لكنه يبقى جزءاً منّا، يرافقنا في تفاصيل الحياة، ويعيد تشكيلنا مع كلّ ذكرى.
أُجريت الانتخابات البلدية في محافظتي، وتُجرى في باقي المحافظات تباعاً. من الجيّد أن نشعر بأنّ الحياة تستمر وأنّ الحراك السياسي يعود تدريجياً إلى لبنان، رغم كلّ ما مررنا به من آلام وانكسارات خلال السنوات الماضية. ومع ذلك، يبقى من المؤلم أن تستمر الحياة من دون من نحب. وأبقى أتساءل: إلى متى سأظل أواجه أحداثاً ومحطات أقول فيها: "هذه هي المرة الأولى التي أعيشها دونك يا أبي"… يا ليتك "تعرف على قلبي غلاك"!