ARTICLE AD BOX
يمكن اعتبار العرض المسرحي "البطل ما بيموت" الذي قدمه عوض عوض من تأليفه وأدائه وإخراج عليّة الخالدي، على خشبة مسرح المدينة في بيروت، الأسبوع الماضي، نوعا من أنواع المسرح الوثائقي الذي يعطي للذاكرة الشفاهية مرجعية إبداعية، تضاف إلى الوثائق المتوفرة، والتي يمكن توفرها لاحقاً مع البحث والتمحيص. ربما من هذا الاعتبار، يمكننا تقدير أهمية هذا العرض، خصوصاً في زمننا المزدحم بمسائل وقضايا مستجدة تسقط على رؤوس المهتمين بالمسائل الثقافية، أو حتى الوطنية والسياسية، فالعرض هو منشورٌ نضالي في المقام الأول، تندرج تحته الحلول الفنية من كتابة وسينوغرافيا وتمثيل وإخراج. رسالة العمل حقوقية: هناك أناس ما زالوا على قيد الحياة، يطالبون بوطنهم المخطوف، بدلالات على حضورهم فيه، وحضوره فيهم، يرتسم فيها الإصرار على المتابعة.
على التوازي مع هذا المحتوى، يبدو الطرح الفني لهذا العرض أكثر تماسكاً، عبر محاولته صنع خيال للمشاهدين، ثم دفعهم في اتجاه تناول الحكاية في وسط يعونه بخيالهم، بمعنى إعادة تأليف الحكاية على مستوى بصري افتراضي، لتأتي السردية وتملأها حيوية أحداثاً وحواراً وغناء. والحكاية بسيطة للاجئ فلسطيني من قرية السمرية التي تتمايز بلهجتها المحكية التي أضفت على النص وسيلة في السرد والتوثيق. لكن لب حكاية "البطل ما بيموت" هو ذلك الإصرار على ديمومة حضور البطولة في عالم اللاجئ المحاصر بحاجاته، إذ يستمر "منصور منصور" أو "البطل أبو إسماعيل" على النجاح في تلبية استحقاقات حياته المنجدلة مع سيرة نضاله في حركة فتح، وينجح في ذلك من دون تبجح أو إعلان.
إنها سيرة لاجئ فلسطيني في أحد مخيمات صيدا جنوبي لبنان، ينقلها للجمهور أحد أحفاده، بناء على تحرياته، كونه أحد أفراد الأسرة، ولديه مقدرة الوصول الى التفاصيل الصغيرة التي تؤكد معرفتها صدق الرواية، بغض النظر عن الزاوية التي ينظر منها إلى الحكاية، لتتصاعد شخصية "أبو إسماعيل" توازياً مجريات النضال الحياتي والوطني، من دون أفق واضح لجميع ما يقوم به هذا البطل الذي لا يموت. هذا التصاعد يعطي للمتلقي فرصة للاستمتاع بالفرجة، في معادل للنص الواقعي المباشر، وذلك عبر الأداء المتنوع الذي قدمه عوض عوض، في ديكور جزافي من دون رمزية تذكر، ففي المقام الأخير، يمثل مخيم لاجئين، والمخيم في جينات تأسيسه أنه ارتجالي وزائل، حيث يمكن الربط بين اللجوء والعودة، في اقتراح استحالة زوال الإنسان البطل، فهو لا يموت.
يحاول الممثل الوحيد على الخشبة الاستفادة من تفاصيل الديكور متعدد الاستعمالات، والذي صنع من أنابيب بلاستيكية في ترتيب سريالي يوحي بالمرتجل المؤقت. لكن تفاصيل هذا الديكور، بدت معيقة لحركة ممثل يبغي السيطرة على الخشبة، خصوصاً أن الإضاءة ضيقتها وجعلتها مرتكزة على وسط المسرح بشكل ثابت، مما صنع "ميزانسين" وحيد وثابت الإيقاع ضئيل الحركة وفي كادر موحد، في تحركات للممثل على الخشبة بدت خائفة من تنويع "الميزنسينات"، حسب فصول أو مقاطع الحكاية، وعليه كان التقدير بأن هذا العمل يميل إلى المسرح الوثائقي. فثبات "الميزانسين" يعادل تحفيظ المتلقي للوثيقة التاريخية، في فلكلور يجب تحويله إلى تراث، يعمل في إدامة المطالبة بالحق. وهذا ليس عيباً بحد ذاته، ولكن هذه الصيغة المسرحية لا تجعل من عروض كهذه عروضاً عمومية لجمهور مفتوح خصوصاً للمشاهدين العرب من الذين لم تغادرهم المسألة الفلسطينية، أو هم لم يغادروها.
ربما هذا العرض يسترجع الحسرة، فمنذ أكثر من 75 عاماً والأمل في النضال ما زال قائماً معتمداً على الصمود، وليس شيئاً آخر غير الصمود واحتمال المصاعب والمآسي، كتراجيديا سيزيفية، تكبر فيها الصخرة مع كل محاولة جديدة لدحرجتها إلى الأعلى. وربما كانت الحسرة هي من صفات النوستالجيا العربية، تلك النوستالجيا التي تحتفي بالحزن والألم الذي لا مناص منه. ربما والتفاتاً إلى فعل الحسرة هذا، أسمعنا صانعوا العمل العديد من أغاني فهد بلان المطرب الذي اشتهر بأغان تحاكي الرجولة بطريقة شعبية وطريفة. لقد كان خياراً موفقاً، لتحضير المشاهدين لتحمل هذا الكم من الحسرة.
