البوصلة الكردية... صمّام الأمان السوري

1 day ago 3
ARTICLE AD BOX

تكاد سورية اليوم تخرج كالعنقاء من وسط الدمار والخراب، محاولةً أن تصبح دولةً لديها مؤسّسات ونظام سياسي وعسكري ومواطنون آمنون. في هذه اللحظة السورية المعلّقة بين الركام والمجهول، وبين قوى الأمر الواقع والارتباطات الإقليمية والدولية، تظلّ البوصلة الكردية واحدة من القِبلات القليلة التي لم تنكسر، بل إنها اليوم، وسط هذا الغرق الجماعي، تشير إلى برٍّ محتمل، نحو وطن لم يولد بعد.

ليست البوصلة الكردية ناطقةً باسم مكوّن واحد، بل هي مشروع متكامل يعكس حرصاً على التنوّع، ورفضاً للعنجهية والانغلاق، فالتلوّن الكردي (سياسياً وإثنياً، ونسوياً) لم يكن أبداً أداة تمزيق، بل كان درعاً صلبةً لصيانة ما تبقّى من فسيفساء سورية المهدّدة بالتشظّي. منذ بدايات الثورة السورية، لم ينخرط الكرد في نزعات الثأر ولا الشعارات الانتقامية، بل سلكوا طريقاً ثالثاً، صعباً ودموياً أحياناً، لكنّه ثبت أنه الأكثر عقلانية على المدى البعيد. ومن هذا المنظور، أيّ رفض للكرد أو استبعاد لهم من المشهد السياسي، لن يكون مجرّد إقصاء، بل خيانة لمعنى الوطن المشترك. رفض البوصلة الكردية يقود المركب السوري نحو الغرق لا محالة. ولأننا نعيش في مناخٍ من التطبيع مع قوىً كانت حتى الأمس القريب تُصنّف إرهابيةً، فمن المشروع أن نُعيد التفكير في المعايير. تغاضى الغرب (على سبيل المثال) عن الماضي الجهادي لأبو محمد الجولاني، وفتح خطوطاً سياسية معه للتخلّص من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما سبق وصنع الغرب أسامة بن لادن، الذي تحوّل أكبر خصم له، ها هو اليوم يختار الجولاني، الخبير بالبنية الجهادية والقتالية للتنظيمات التي تهدّد الغرب، لكنّه يتمتّع بعقلية حيوية واقعية، قادرة على التحوّل مشروعاً سياسياً، فيضع الغرب، مجدّداً، ثقته فيه، ويستدعي الشرع بوصفه الشخص القادر على "تنظيف" الساحة من المقاتلين المتشدّدين. لكن، هل يستطيع الشرع وحده القيام بهذه المهمة الصعبة؟... الإجابة بسيطة: يحتاج الشرع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي.

سورية اليوم أمام معضلة مستعصية؛ وجود آلاف المقاتلين الأجانب، إرهابيين أو تابعين لقوى إقليمية، موزّعين بين سجون "قسد" في الشرق ومواقع النظام والمليشيات في الغرب. وحده التعاون الحقيقي بين الطرفَين يمكن أن يؤدّي إلى حلّ جذري يُنهي الوجود غير السوري، ويُمهّد لقيام جيش وطني قوي غير عقائدي. وهنا، لا بد أن نتوقّف عند خطوةٍ محوريةٍ تغيّر مسار تفكير "قسد" وسلوكها، وهي قرار حزب العمّال الكردستاني حلّ نفسه، الأمر الذي لاقى ترحيباً من مظلوم عبدي، وأبدى استعداده وفتحه للحوار مع تركيا. وهذه ليست مجرّد أخبار هامشية، بل تحوّلات استراتيجية تحمل طموحاً إلى تجاوز العسكرة نحو السياسة، وتجاوز الحرب نحو السلام. إنها رغبة في إغلاق الجبهات لا فتحها، لبناء سورية من دون قتال، بسلاح لا يُشهَر إلا للدفاع عن السيادة. وفي خضم هذا المشهد السوري المتداخل، تبرز "البوصلة الكردية"، ليس حالةً محلّيةً معزولةً، بل مشروعاً سياسياً وأخلاقياً ناضجاً، يشكّل ركيزةً ممكنةً لإعادة بناء الوطن، فما الذي تحمله هذه البوصلة من ملامح؟ وما الذي يجعلها صمّام أمان حقيقي وسط انهيارات المعنى والانتماء؟

يمكننا أن نكون أمام حقبة متغيّرة تنقل سورية من الحرب الداخلية وتحميها من حروب أهلية محتملة بالانفتاح على التجربة الكردية

لا بدّ، أولاً، من احترام التنوّع بوصفه أساساً للوطن، لا تهديداً له، فالتجربة الكردية قامت، منذ بدايتها، على فكرة الاعتراف بالآخر، العربي والسرياني والآشوري والمسلم والمسيحي، جزءاً من النسيج المشترك. هذا التنوع الذي يتسم به المشهد الكردي، وتجربة الإدارة الذاتية، تؤمّن حمايةً تلقائيةً وإحساساً بالأمان للأقلّيات في سورية، وتمنعها من اللجوء إلى قوىً خارجيةٍ تحقّق لها الأمان. على سبيل المثال، جاء توقيع الاتفاق بين الشرع وعبدي في مارس/ آذار الماضي مترافقاً مع مجازر الساحل، التي أظهرت النظام في دمشق يبدو غير قادر على ضبط انتهاكات عناصر لا تأتمر بإمرته، وكان ذلك التوقيع بمثابة ورقة أمان لعلويّي الساحل الذين ناشدوا جيش "قسد" للتدخل. وبغضّ النظر عن استجابة المقاتلين الكرد، فإن وجود هذه القوى العسكرية والسياسية، الخالية تماماً من أيّ احتمالات عدائية تجاه الأقلّيات، فهي بذاتها تشكّل جزءاً من المكوّن الأقلّوي السوري ضمن المفهوم العام. لهذا يشكّل وجودها الرسمي (والاعتراف بها) بوصلةَ أمان لباقي المكوّنات السورية. وثانياً، ينبغي رفض عسكرة المجتمع، رغم قوة التشكيلات العسكرية، فالقوة هنا ليست أداة هيمنة، بل حماية، ولم تُستخدم لبناء إمارة أو فرض وصاية. حين تندمج القوى العسكرية للطرفَين، فهذا يعني إنهاء العسكرة القومية أو العرقية، وتنتصر مجدّداً فكرة الجيش السوري الواحد، البعيد عن الأدلجة الدينية أو الطائفية أو الإثنية. وهناك (ثالثاً) تمكين النساء في أدوار غير مسبوقة. إن وحدات حماية المرأة، ليست رمزاً للكفاح المسلّح فقط، بل هي إعادة تشكيل لصورة المرأة السورية المقاتلة القائدة المتكلمة باسم نفسها، إنها صورة تنسف نماذج الدعوات المتطرّفة التي جعلت من جسد المرأة أداةَ خوف أو عار، وتطرح بديلاً نسوياً شجاعاً يعيد تعريف الحرّية والكرامة.

رابعاً، خبرة ميدانية سياسية وعسكرية لا يمكن الاستهانة بها، فالكُرد لم يقاتلوا دفاعاً عن أرضهم فحسب، بل قاتلوا عن العالم كلّه حين هزموا "داعش". وهناك (خامساً) رؤية لسورية خالية من المقاتلين الأجانب من الطرفَين، واستعادة الهُويَّة الوطنية المستقلّة. وأخيراً نموذج إداري مدني يقدّم مقترحاً جادّاً لسورية المستقبل، لامركزية علمانية تُبنى من الأسفل إلى الأعلى. ناهيك عن إعادة العلاقة مع تركيا على أسسٍ جديدة، خصوصاً بعد الحوار أخيراً مع مظلوم عبدي عبر محطّة شمس الفضائية، الذي أبدى فيه استعداده للتحاور مع تركيا، وكذلك على التخلّي عن اللباس العسكري والعودة إلى العمل السياسي في حال لم تعد هناك تهديدات تطاول المنطقة.

ليست البوصلة الكردية ناطقةً باسم مكوّن واحد، بل هي مشروع متكامل يعكس حرصاً على التنوّع

يمكننا أن نكون أمام حقبة متغيّرة تنقل سورية من الحرب الداخلية وتحميها من حروب أهلية محتملة عبر الترحيب والانفتاح على التجربة الكردية، بشقّيها السياسي والعسكري، والاستفادة منها لحماية سورية. وحده اعتراف دمشق بهذه البوصلة، وتحويلها جزءاً من قلب الدولة السورية، قد يمنع انهيار المركب، أمّا مواصلة الإنكار والتجاهل، فستقودنا إلى القاع الذي بدأنا نلمسه جميعاً.

Read Entire Article