الجزائر... الواقعة والرسالة والمعنى

2 days ago 1
ARTICLE AD BOX

تقع مدينة فرندة شمال غربي الجزائر، وينسى الكثيرون أنها موطن ولادة المستشرق الفرنسي الكبير جاك بيرك، وتقع فيها مكتبته التي تضمّ 30 ألف كتاب، ومغارة ابن خلدون التي مكث بها أربع سنوات، وكتب فيها فصلاً من "المقدمة". هي بذلك مدينة لصيقة بالمعنى الثقافي الذي يتجاوز القيمة المحلية، ومن هذه المدينة التي ليست هامشاً جغرافياً، جاء فوزي زقوط، وهو شاب وناشط مدني، ليُقدم على محاولة استعراضية للانتحار حرقاً، أمام مقرّ وزارة العدل في العاصمة الجزائرية، بسبب ما يحسبها "مظلمة قضائية".

بسبب سردية "الربيع العربي"، بات "الإقدام على الحرق"، في المجتمعات العربية تعبيراً سياسياً بالأساس، وفعلاً مرتبطاً بمعنى الثورة والغضب، منذ حادثة محمد البوعزيزي في تونس، التي أشعلت ثورات الربيع العربي عام 2011، التي تجنّبتها الجزائر لعوامل خاصّة بالحالة الجزائرية. وسواءً قصد فوزي أن يصنع من نفسه بوعزيزي آخر أم لا، في لحظة منفلتة، فإن الواقعة كما تبدو مقلقة ومحزنة في آن، ويتعيّن أن تجري قراءتها في سياقها والحفر في دوافعها وإسقاطاتها، بالتحديد ما إذا هامش الثقة بين المواطن الجزائري ومؤسّسات تدبير الشأن العام، هشاً ومشوشاً إلى هذه الدرجة.

يمكن التعامل مع هذه الواقعة على أنّها حالة فردية تعبّر عن مشكلة خاصّة، لكنّ ذلك قد يبعد عن القراءة الصحيحة والضرورية لها. ثمّة قلق لا تُخطئه العين ولا يتجاهله تقدير موضوعي للموقف في الجزائر، تتعدّد دوافعه وأسبابه بلا شك. لا تبدي الحكومة ما يؤكد أنها تتلمّس هذا القلق، أو بوجود أخطاء في تدبير السياسات على النحو المطلوب، وتبدو في بعض المواقف في حالة إنكار بشأنه، مثلما يظهر في العناوين السياسية والإعلامية الكبرى والتفصيلية لخطاب السلطة، لكنّ مظاهر هذا القلق قائمة وتعبر عنها كثير من الوقائع والتقديرات السياسية التي تصدرها أحزاب وشخصيات مسؤولة وهيئات نيابية ورقابية مقتدرة، حول الوضع الاجتماعي والاقتصادي.

ساق الله إلى السلطة في الجزائر، شعباً صبوراً ويقظاً، هو رزق في المنظور السياسي، مشبعاً بتاريخه وفخوراً بانتمائه، وأكثر التحاماً مع المؤسّسة الرسمية عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن قضايا البلد وأمنه، ومتمسكاً باستحقاقات سيادته ومواقفه، لكنّه وفقاً لذكائه الجمعي ويقظته التاريخية، مرّر في أكثر من مناسبة رسائل إلى السلطة بتعبيراته السياسية المختلفة، برفضه للتآكل الداخلي والدوران في الحلقات المفرغة، ومنع أي تجربة إخفاق أخرى في تدبير الشأن العام.

لعلّ أصغر نواب البرلمان الجزائري، عز الدين زحوف، كان مبدعاً خلال جلسة البرلمان لمناقشة ضبط الموازنة قبل أيام، إذ خاطب الحكومة قائلاً: "إذا لم تكونوا قادرين على الإبداع في الحلول، فعلى الأقل أبدعوا في الأخطاء". كان هذا النائب الشاب الذي تُعرف عنه الرصانة والاتزان، والبُعد عن الشعبوية في ممارسته النيابية، يقصد أنه من المثير أن تكرّر الحكومة الأخطاء نفسها في كل مرحلة، وهذا أمر سيّئ بالنسبة للجميع في الجزائر.

ثمّة مثل عربي يقول "لا تتشاجر مع رجل قصير، فهو يجمع الحجر بسرعة". وعندما تقرأ الحكومة في الجزائر الواقع والوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية من موقع عالٍ، يبدو لها المجتمع قصيراً، -وهو ليس كذلك-، وسيكون عليها أن تستحضر هذا المثل بكثافة.

Read Entire Article