ARTICLE AD BOX
بيقين ومن دون ادعاء يمكن الجزم بأنّ حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة هي أكثر الحروب توثيقاً بالصور والفيديوهات، رغم منع الاحتلال الإسرائيلي والسلطات المصرية دخول الصحافيين العرب والأجانب إلى القطاع لتغطية العدوان.
تغرق مواقع التواصل الاجتماعي، منذ بداية حرب الإبادة، بعشرات آلاف الفيديوهات والصور، للمجازر الإسرائيلية، للغزيين الجائعين، للأمهات المفجوعات باستشهاد أطفالهنّ، لأطفال مبتوري الأطراف... كل أنواع الفظائع عرفتها غزة، وكل أنواع الفظائع رأيناها مباشرة على المنصات المختلفة، ورغم ذلك، ثمّة من يرى أن كل هذه الدماء وكل هذا الحزن غير كافية، فيلجأ إلى توليد صور بالذكاء الاصطناعي، وينشرها على اعتبارها صوراً حقيقية من داخل القطاع.
آخر هذه الصور تلك التي تظهر الطبيبة الغزية آلاء النجار في غرفة رمادية باردة، منتصبة بقامتها، مرتدية ثوبها الأبيض، بوجه باكٍ، وحولها أطفالها الشهداء، مكفنين وجثثهم "نائمة" على أسرة حديدية.
قتل الاحتلال أطفال آلاء النجار التسعة: يحيى، وركان، ولقمان، ورسلان، وجبران، وإيف، وريفان، وسيدرا، وسيدين، ولم يسلم إلا ابنها آدم (11 عاماً)، الذي أصيب وحالته حرجة. لا صور فعلية توثق لحظة احتضان الأم جثث أطفالها، ولا فيديو للحظة استقبال الدكتورة آلاء خبر استشهاد الأطفال، أقله حتى لحظة كتابة هذه السطور. ما رأيناه، هو ما نشرته وكالة الأناضول، يوم أمس، لزيارة النجار زوجها وابنها المصابين في المستشفى. ورغم ذلك، انتشرت تلك الصورة المفبركة على مواقع التواصل الاجتماعي.
تفاصيل كثيرة أخرى تثبت أن الصورة غير صحيحة، أبرزها شهادة عم الأطفال الذي أكد أن الجثث كلها كانت متفحّمة، وأن التعرف على الأطفال كان شبه مستحيل، وهو ما أكده أكثر من طبيب في مستشفى ناصر الطبي.
انتشرت كذلك صورة ثانية، تظهر سيدة بحجاب، وثوب الأطباء الأبيض، تحتضن جثثاً في أكفان، لا يظهر وجه السيدة، لكن جرى تداولها على اعتبارها صورة للطبيبة النجار، من دون أي تأكيد فعلي، بسبب غياب وجهها، أو أي تفصيل يدلّ على هويتها.
طيب، لماذا يلجأ البعض إلى "اختراع" صورة، لمأساة لا تحتاج فعلياً إلى أي "تزييف" أو محتوى بصري يزيد من وقعها، فالخبر بصيغته الأصلية، ببساطته، كافٍ ليختصر كل مآسي غزة: "الاحتلال يقتل أطفال الطبيبة آلاء النجار التسعة"، أي صورة تتفوّق على هذه العبارة؟
منذ بدء حرب الإبادة هذه في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حضر الذكاء الاصطناعي بكل أشكاله الممكنة، ولعلّ أكثر أشكاله وحشية هي استخدامه من الاحتلال لقصف المدنيين واستهدافهم في بيوتهم، وتحويل القطاع إلى مختبر لأسلحة وتقنيات "ذكية" جديدة.
لسنا هنا، بموضع نقاش أخلاقيات هذا الجانب تحديداً، فما أقدمت عليه إسرائيل منذ اللحظة الأولى للحرب تجاوز كل ممكن ومتوقع، وبات خارج نقاش الأخلاقيات والقوانين الدولية أساساً. لكن نقاش الأخلاق هذا يطرح عند نشر الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي.
في 25 يونيو/حزيران الماضي، بثت قناة الجزيرة لقطات حصرية لكلب بوليسي تابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي يهاجم امرأة فلسطينية مسنّة في مخيم جباليا للاجئين شمال غزة. لكن، بعد ساعات قليلة، انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي صورة من صنع الذكاء الاصطناعي تمثّل الجريمة التي ارتُكبت بحق السيدة المسنة في غزة. وقد حظيت الصورة باهتمام واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض المواقع والمستخدمين تداولوها على أنها حقيقية.
الفيديو وحده كان كافياً، صوت الصراخ والرعب الذي نسمعه من دون رؤية تفاصيل واضحة، لا حاجة إلى أي صورة تجعل من اللحظة، لحظة وحشية. لكن تلك الرغبة في صناعة ترند، تلك الرغبة في الانتشار السريع، حوّلت كل ما له علاقة بالمقتلة المفتوحة في القطاع إلى محتوى، وصاحبه إلى صانع محتوى.
والمعضلة هنا، ليست معضلة "مهنية" مرتبطة بالصحيح والكاذب فقط، بل انتهاك لكرامة هؤلاء الأشخاص، ولروايتهم: الطبيبة آلاء النجار، أطفالها الشهداء، السيدة العجوز التي هاجمها الكلب. كأن الخبر وحده غير كافٍ لشفاء غليل المستخدم/ المستهلك للمحتوى. فكلما مرّت أيام على الحرب، وكلما زاد الاحتلال من وحشيّته، احتاج مستخدم هذه المواقع إلى جرعة بصرية إضافية. التعاطف أمام سيل الصور هذا، يحتاج يومياً إلى رفع جرعة المأساة، هذه هي قاعدة هذا العالم الافتراضي، وهو ما يدركه جيداً صنّاع المحتوى. فخبر المجزرة وحده ليس خبراً ما لم نرَ أشلاء وشلال دماء على هواتفنا وحواسيبنا.
