الصفعة

2 weeks ago 4
ARTICLE AD BOX

"لم تصفعني أمّي حين خذلني ذهني، وأنا في المعتقل، لكنّ أمّ موخيتا فعلت، وصفعتها هي له، أفاقتني كما أفاقته، وأعادت لي رشدي كما فعلت معه".

في حفرة ليست كأيّ حفرة، إذ لم تكن للبشر، بل للخيول أو الأشباح، قضى صاحبنا سنواته تلك سجينًا، لم تكن زنزانة بل قبرًا، يختنقُ فيها الضّوءُ أو ينعدم، تمامًا كما التنفّس والأمل، خيطٌ شاحبٌ متقطّع يتسلّلُ من الأعلى، لا يكفي ليضيء ولا ليُحيي، فقط يذكّركَ بأنّ المسعى هناك موجودٌ، ولو بعيدًا، وشاقّةٌ كلّ طريقٍ إليه إن لم تكن مستحيلة.

لا صوتَ إلا نقاطُ ماءٍ تتساقطُ من السقف هي الأخرى، كساعةٍ لحوحٍ في ليلِ مأروقٍ، لا تروي ولا تتوقّف، تحفرُ في الصمتِ ورأسه، تعذّبه كما يعذّبه وجوده ذاته، ما دام على هذه الصورة، في هذه الحفرة. 

في البدء حاول خوسيه عدّ القطرات، تحايلًا عليها وعلى ذهنه، أو توليفًا بينهما، حوّلها إلى خيطٍ (ولو هشًّا) يربطه بالزمن، ثم شيئًا فشيئًا راح يحدّثها، يهمس لها، يعاتبها، وفي ليالي الشتات كان يسمعها تردّ عليه، كأنّها تحمل له أصواتًا ودودة من عوالم كاد ينساها.

كانت تنتابه لحظات، يعبّؤه البرد فيها مع الشكّ فيتساءل: لماذا تقاوم، وقد نسيكَ الجميع؟ 

كأنّما عقله يذوي ببطءٍ كورقةٍ تحترق، كوردةٍ انقضى عمرُ عبيرها وزهوتها، رأسه يتشقّقُ تحت وطأة الوقتِ والصمتِ والهواجس، يحاول التشبّث باستدعاءِ ما يتفلّت من ذهنه؛ أسماء الرفاق، تواريخ الاجتماعات، أمّه، حبيبته... يُصاحب ذهنه كطفلٍ يخشى أن يتمرّد عليه فيفقده، يتهجّى معه الحياة برويّة علّها تبقى فيه، يستدعي أبياتًا من نيرودا ليطعّم نفسه ضدّ الجنون، حتى قال في لحظة تالية، بعيدة: "نيرودا أنقذني من التحلّل؛ كان هو وقطرات الماء وأمّي، كلّ ما تبقّى من العالم في رأسي". 

لكن حتى الكلمات التي أبقته حيًّا، تتلاشى وتتداخل ويكتنفها الضبابُ، استيقظ ذات ليلة ولم يعرف أيّ الأيام هذا، وفي لحظة هلع حدّق في يديه مُسائلاً نفسه: لمن هذه الأصابع؟ كان الانهيار يقتربُ، وجسده الذي تحمّل الجوع والضربات لم يكن هو مصدر الخطر، إنّما ذهنه، حصنه الأخير قبل السقوط، وخسارته تعني خسارة إنسانيّته، وحياته وكلّ ما يعني له شيئًا في هذا العالم.

ظلّ يبني أعمدةً في رأسه يستند إليها، يتخيّل قريته، أشجارها، رائحة التراب بعد المطر، صوت غناء أمّه في طفولته، وفي جلسات التعذيبِ يغمضُ عينيه ويتخيّل الشاطئ والأمواج وجسد فتاةٍ اشتهاها، فيراه الجلادون يبتسمُ ويزداد ثقل سياطهم، لكنّ شيئًا يتردّدُ في داخله "لن يأخذوا مني ما لا أمنحه"، ورغم ذلك كانت تنتابه لحظات، يعبّئه البرد فيها مع الشكّ فيتساءل: لماذا تقاوم، وقد نسيكَ الجميع؟ 

وفي ليلةٍ قاسية، موحشة، وثقيلة، سحبه الحرّاس إلى غرفة خانقةٍ رطبة وعفنة، يملأها خوف من سبقوه إليها وهلعهم، أخبروه: زيارة. لعلّه لم يدرك ما الذي تعنيه الكلمة، فاتت سنون منذ رأى إنسانًا يعرفه، دخلت عليه امرأةٌ نحيلة منهكة تحني السنين والغياب كتفيها حتى تكاد تسقطُ مع كلّ خطوة، لعلّه لم يعرفها في البدء، لكنّ شيئًا غامضًا (علّها الرائحة) عرّفته عليها فاهتزّ كيانه: إنّها أمّه.
"أمّي، أنا أنكسر" أخبرها بصوتٍ هيّنٍ مهزوم، وهو ينظر إلى الأرض، لم تجبه، لم تبكِ، ولم تقل شيئًا مطلقًا، فقط اقتربت منه أكثر، رفعت يدها وصفعته، لم تكن صفعة قاسية، بل منقذة، حامية، أيقظت فيه شيئًا ظنّه مات واندثر، واستعاد نفسه، واستعادها بكفّ أمّه تلك وصفعتها، ثمّ تعانقا وبكيا كما لم يبكيا من قبل

بكى لأنّه استفاق، لأنّه تذكّر، لأنّ قلبه عاد يعمل.

في شبابه، كان خوسيه يبيع الورود، يقطف الوردات عند الفجر، يبيعه للعشاق والفقراء وأبناءِ الحنين

في شبابه، كان خوسيه يبيع الورود، يقطف الوردات عند الفجر، يبيعها للعشاق والفقراء وأبناءِ الحنين، يبتسم للجميع بالدفء نفسه، لكن يحمل في قلبه حلمًا أكبر: عدالة لمن لا صوت لهم، ووجبات ثلاث لكلّ إنسان في هذا العالم؛ انضم إلى "التوباماروس"، حركة تقاوم سلطة فاسدة تسطو على الخبز، وتنشر الرعب، سرقوا البنوك، ليعيدوا المال إلى أصحابه، أو ليموّلوا عملياتهم، اقتحموا مخازن الطعام، ليملأوا بطون الجياع، كانوا يحلمون ببلد كفاف، بلا جوع أو كذب، لكن الدولة لا تحلم، إنّما تخلق الكوابيس، وتوقظ الكلّ على نوافير الدم في الواقع لا في المنامات.

اعتُقل خوسيه مع رفاقه، ودُفِنوا في ظلام السجن، لنحو اثنتي عشرة سنة، تنقّل بين زنازين وحفر، واجه تعذيبًا جسديًا ونفسيًا مُصمّمًا بدقّة لكسره وإخضاعه، صوت السياط، الصراخ المزيّف لأحبائه، الجوع، الوحدة، العتمة، وصوت قطرات الماء، أرادوه منهارًا، خانعًا أو خائنًا، أو ميّتًا؛ لكنه تماسك؛ الصفعة التي منحته إياها أمه كانت جرسًا داخليًّا وطوق نجاة، يذكّره دائمًا "العقل هو ساحة المعركة".

بعد تحرّره، خرجَ كشبح، لا شيء يمكن حكيه عمّا جرى له في تلك السنين، لا الرفاقُ هنا، ولا البلادُ على ما تركها، لعلّه شعر بالغربة، عن هذا العالم الذي هو ليس زنزانةً أو حفرة، لعلّه قاوم كثيرًا ذكريات السجن التي طاردته، استقبلَ كبطلٍ (وهو كذلك) لكنّه لم يرَ في نفسه إلا رجلًا قام بدوره، وآن له أن يكمل الدورَ على ذات الطريق الذي بدأه قديمًا، وحافظ على مساره فيه رغم الضربات، وهذا وقت استكماله، ربّما فكّر طويلاً في الانتقام، تخيّل نفسه جلادًا لجلاديه، أو فكّر في السلطة بكونها فرصة لتعويض ما حرمه بطول سني الفقر أو السجن، لكنّه قاوم نفسه، وصمد في هذه أيضًا

أصبح رئيسًا، لكنه رفض القصر والمواكب، عاش في بيته الريفي، مع الكلاب والدجاج والأرض

وقرّر لنفسه طريقًا آخر، حمايةً لنفسه، لروحه، لقلبه، فعاد إلى مزرعته وورداته، إلى أهل بلده الذين ناضل لأجلهم ليكونوا مجتمعه كما تمنّى لهم، كتب وغنّى وحكَم، من دون أن يصبح كاتبًا أو مغنّيًا أو حاكمًا (على الصورة التي نعهدها) إنّما كإنسانٍ يجتهد ليفعل، ليختار ما يطنّه صوابًا، دون التورّط في وحل السلطة أو المال أو الشهرة، قرّر أن لعق جراحه سيبقيه في مكانه للأبد، وأنه ليتحرّك للأمام، عليه أن يتركها ويمضي، ففعل.

أصبح رئيسًا، لكنه رفض القصر والمواكب، عاش في بيته الريفي، مع الكلاب والدجاج والأرض التي لا منها جاء، قاد سيارته القديمة، كنس فناءه، طبخ لزوجته، واشتغل يدًا بيدٍ مع جيرانه، وحين سألوه

- لماذا لا تنتقم؟

- لأن الانتقام يُبقيني سجينًا، وأنا اخترت الحرية.

- لماذا لا تملك شيئًا؟

-لأن من عاش في الطين لا يطمع بالذهب؟ 

وسأله طفل في زيارة مدرسيةما الذي لن تنساه؟

ابتسم وقال: الصفعة.

رحمَ الله الزاهد الصامد الإنسان النبيل خوسيه موخيتا.

Read Entire Article