العراق الحائر بين الديني والمدني

1 day ago 4
ARTICLE AD BOX

ها قد انقضت نحو 22 عاماً على تغيير النظام العراقي وسقوط نظامه السابق ذي الصبغة القومية. ورغم مرور هذه السنين، يبقى الجدل مستمرّاً ومتجدّداً: هل العراق دولة دينية أم مدنية؟ هل للشعب كلمة في اختيار هُويَّة نظامه السياسي؟... بين دستور مكتوب، يُفترض أنه الوثيقة الأسمى التي تحدّد ملامح النظام وممارساته في أرض الواقع، تفرضه سلطة الدولة "المتديّنة"، يظهر اضطراب في الهُويَّة السياسية للنظام، الذي تشكّل عقب الغزو الأميركي عام 2003. بات هذا الاضطراب بات يؤثّر كثيراً في جوانب الحياة العامّة، ناهيك عن تأثيراته المختلفة على تعامل الدولة مع الخارج، فهو يفرض على المواطن قيماً قد لا تنسجم معه، ويحدّد له أطرَ الحياة التي ينبغي أن يعيش في ظلّها، وأيضاً يضع الدولة ككلّ في إطار قالب معيّن يحدّ من إمكاناتها الخارجية وتعاملاتها الدولية. ورغم ذلك، فإن الذين يملكون سلطة الأمر الواقع، بعيداً من الدستور، باتوا معزولين عن الحاضنة الشعبية، ولا يملكون سوى السلطة والمال والسلاح، إلى جانب مليشيات تدعمها مرجعيات دينية تشرّع لهم ما يريدون عندما تستدعي الضرورة ذلك.

يعكس دعم مرجعية النجف قوى سياسية خشيتها من وصول شخصيات تشكّل تحدّياً لها إلى البرلمان أو الحكومة

أسوق هذه المقدّمة بعد خطبة صلاة الجمعة الماضية في مدينة النجف، التي دعا فيها ممثّل المرجعية الدينية أبناءَ المحافظات الجنوبية (الشيعيّة) إلى تحديث بطاقاتهم الانتخابية، بعد أن أظهرت المؤشّرات الرقمية أن نسب تحديث بطاقات الناخبين في المحافظات الغربية والشمالية تفوق نظيرتها في المحافظات الجنوبية. الخطيب اعتبر هذا مؤشّراً على أن أبناء المحافظات الغربية قد يسعون إلى "انتزاع الحكم" من "الأغلبية الشيعيّة"، إذا توافدوا إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية المقرّرة في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل، على الرغم من أن الجميع يعلم أن المقاعد البرلمانية لكلّ محافظة محدّدة سلفاً، وأن هناك ما يشبه "الحصّة" البرلمانية التي تحدّد وزن الكتل الطائفية والعرقية، مع بعض الاختلافات البسيطة التي قد تطرأ على الخريطة الانتخابية، وتحديداً في العاصمة بغداد صاحبة الثقل الانتخابي الأكبر. وحتى لو افترضنا جدلاً أن العرب السُّنة سيحصلون على أغلبية المقاعد البرلمانية، فإن العرف المتّبع في العملية السياسية منذ عام 2003 يقوم على محاصصة توزّع المناصب الثلاثة الرئيسة بين المكوّنات الشيعيّة والسُّنية والكردية، فمنصب رئيس الوزراء بات شيعياً، ورئاسة البرلمان للعرب السُّنة، ورئاسة الجمهورية للأكراد، رغم أن هذا التقسيم لا ينصّ عليه الدستور أو أيّ وثيقة مكتوبة، بل هو عرف سياسي سارت عليه "تقسيمة الكعكة".
ينصّ الدستور العراقي، الذي اتُّفق عليه في 2005، على أن "جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي". كما تنصّ المادة 14 على أن "العراقيين متساوون أمام القانون من دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي". لكن الدساتير، في الدول التي تعاني الفشل السياسي، غالباً ما تُكتب ولا يُعمل بها، فالدستور العراقي مركون على رفّ النسيان، لا يُذكَر إلا عندما تقتضي مصلحة الجهات الحاكمة ذلك، فعلى الرغم من تحفّظات على بنوده يبقى وثيقةً جيّدةً إذا طُبِّق، فهو أقرب إلى الدستور المدني، ويضع حدّاً فاصلاً بين ما هو ديني وما هو مدني.
منذ اللحظة الأولى لسقوط النظام السابق، سيطرت الأحزاب الإسلامية الشيعيّة على مفهوم الدولة المدنية، مستندةً إلى إرث طويل من المظلومية. ولم يقتصر خطابها على فترة حكم النظام السابق، بل امتدّ إلى عمق التاريخ، معتبراً أن الوقت قد حان ليحكم العراق "الأغلبية الشيعيّة" المضطهدة. ردّد هذه العبارة نفسها بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي للعراق عقب الغزو، لكنّ هذه "الأغلبية" التي تولّت الحكم بعد 2003 جاءت محمّلةً بإرث من العداوات، حاملةً معها أيديولوجيتها التي تُستمَدّ منها شرعيتها بوصفها أحزاباً "إسلامية"، ولولا التدخّل الأميركي في صياغة الدستور، لكتبت هذه الأحزاب دستوراً أقرب إلى دستور جمهورية إيران الإسلامية.
وعلى الرغم من أن خطاب الحكومات العراقية يسعى إلى الظهور بمظهر مدني، إلا أنه يبقى رهينةً لدى القوى الحاكمة، التي تعتبر رئيس الوزراء مجرّد موظّف لديها، وهو ما أقرّ به عديدون من قادتها.

يسعى خطاب الحكومات العراقية إلى الظهور بمظهر مدني، إلا أنه يبقى رهينةً لدى القوى الحاكمة، التي تعتبر رئيس الوزراء مجرّد موظّف لديها

ترى هذه القوى نفسها سلطةً شرعيةً فوق سلطة الدولة والحكومة، ويكفي أن "نجرّد" عدد العطل الرسمية الممنوحة للمناسبات الدينية "الشيعيّة"، لندرك وجود مؤسّسة دولة عميقة لا تستطيع الحكومة مجاراتها. اليوم، وبتجرّد، يمكن القول إن القوى السياسية الشيعية الحاكمة باتت معزولةً عن شارعها، عزلة تمثّلت أولاً بشكل واضح في انتخابات 2021، إذ نجد أن غالبيّتها تراجعت ولم تحظَ بمقاعد برلمانية كافية، إذ تخطّاها الشعب، لكنّها، وبدعم إيراني كبير، أصرّت على تعطيل نتائج الانتخابات، ودخلت في اشتباكات مسلّحة مع أنصار التيّار الصدري في المنطقة الخضراء في أغسطس/ آب 2022، مما دفع مقتدى الصدر إلى سحب نوابه وترك مقاعده للأحزاب الشيعية الأخرى.
تملك هذه الأحزاب اليوم سلطة المال والسلاح، إلى جانب الشرعية الدينية التي تحتاجها، فرغم أن مرجعية النجف تؤكّد أنها لا تدعم أحداً، فإن خطاب ممثّلها في خطبة الجمعة الماضية يشير إلى دعم ضمني لهذه القوى السياسية، مثل أحزاب الدعوة والمجلس الأعلى وبدر والحكمة والعصائب (بشقّيها المسلّح والسياسي) وحزب الله وغيرها. ويعكس هذا الدعم خشية المرجعية من وصول شخصيات قد تشكّل تحدّياً لها إلى البرلمان أو الحكومة، مثل مقتدى الصدر. ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، فإن صنعة الطائفية التي تجيدها هذه الأحزاب ستجد لها سوقاً رائجاً، لأنها تُدرك جيّداً أن لا حياة لها في العملية السياسية من دون هذا الخطاب المأزوم. وبالتالي، إذا ما قيّض لهذه القوى أن تبقى في صدارة المشهد السياسي، فإن العراق سيبقى عالقاً في صراعه الهُويَّاتي بين الديني والمدني.

Read Entire Article