العراق من دولة فاشلة إلى دولة مفلسة

1 day ago 2
ARTICLE AD BOX

يدقّ برلمانيون عراقيون جرس الإنذار، محذّرين من احتمال ذهاب العراق في داهية، وتحوّله إلى دولة مفلسة عاجزة عن تنفيذ التزاماتها المالية لمواطنيها إلى درجة عدم تمكّنها من دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين والفئات المهمّشة التي تعتمد في معيشتها اليومية على مساعدات الدولة، مدللين على ذلك ببلوغ حجم المديونية العامة أكثر من 130 مليار دولار، ما دفع حكومة محمد شيّاع السوداني، في معالجة قاصرة، إلى سحب أكثر من ملياري دولار من "الأمانات الضريبية"، وإلى بيع أصول عقارية عائدة للدولة، لتمويل الرواتب ومخصّصات الرعاية الاجتماعية.

لا مطرح هنا لعرض ما يعكسه وضع كهذا على حال العراقيين العاديين المهمومين بتدبير قوتهم اليومي، وما يعانونه من ظروف اقتصادية صعبة، يكفي أن نذكر أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر بلغت 17.5% من السكان، وأن 74% من خرّيجي الجامعات لم يحصلوا على فرص عمل، وأن ما هُرّب من المال العام بلغ أكثر من 350 مليار دولار بحسب تقرير للجنة النزاهة البرلمانية، وأن تاجراً صغيراً هرّب بـ2.5 مليار دولار، وحوكم ثم شمله العفو العام، وأن الهدر المالي على مشاريع وهمية تخطّى أرقاما فلكية، في قطاع الكهرباء وحده جرى صرف أكثر من مائة مليار دولار، والعراقيون ما زالوا يعيشون في الظلام ليل نهار.

يكرّر مسؤولون رسميون مزاعمهم عن متانة الوضع المالي، يرى خبراء اقتصاديون أن لا مجال لإنكار حقيقة الوضع

وفيما يكرّر مسؤولون رسميون مزاعمهم عن متانة الوضع المالي، يرى خبراء اقتصاديون أن لا مجال لإنكار حقيقة الوضع، وأن لا سبيل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه سوى التوجّه إلى وضع خطّة علمية لإصلاح جذري يشمل الهياكل والمؤسّسات المالية، ويضمن مكافحة الفساد، واستثمار الإيرادات جيداً، والعمل على توفير مصادر أخرى للثروة إلى جانب النفط الذي يشكل 95% من الميزانية، وكذلك القضاء على بدعة المكاتب الاقتصادية التي تمثل عمليات نهبٍ مباح من المال العام لصالح الأحزاب والمليشيات في ظل "فتوى" دينية مصطنعة، تقول بحق من يقع في يده المال الذي لا مالك له بالاستحواذ عليه. ... والمال العام في عرف هذه الفتوى "مال سائب ولا مالك له"!

لا تبدو هذه الحزمة من الحلول واردة في أذهان أفراد التركيبة الحاكمة الذين اعتادوا الهروب من مواجهة الأزمات بإحداث أزماتٍ جديدة، خصوصاً وهم اليوم غارقون في حمّى الانتخابات البرلمانية المقبلة، والأولوية القصوى لديهم مناكفة بعضهم بعضاً، وتبادل الكشف عن الفضائح بينهم، فضلاً عن حقيقة باتت معروفة، أن معظمهم لا تتوفر لديه القدرة على إنقاذ البلاد مما هي مقبلة عليه، ولا حتى الإرادة لفعل ذلك، وكل ما يفكرون فيه أن ليس في الإمكان أفضل مما كان، والأفضل بالنسبة إليهم الحفاظ على المكاسب والامتيازات التي تحققت لهم.

الإصلاح الاقتصادي والمالي المطلوب يمثل أحد وجهي "عملة" الإنقاذ الحقيقية لوقف الانهيار

ومن طبائع الأمور أن دولة بهذا الوضع الإداري الهشّ، والوضع السياسي الغارق في التبعية، لا بد أن تصل، في لحظة تاريخية فارقة، إلى حافّة الانهيار الشامل، حيث لا يتوفر حل سحري سريع قابل للتنفيذ سوى مقاربةٍ تنقذ البلاد من عواقب الانهيار. ومقاربةٌ مفتقدةٌ كهذه لن يحققها سوى إجماع وطني شامل، تمثله القوى الحية في المجتمع. وفي حال العراق، يبرز دور ثوار تشرين (2019) ومن يقف معهم من العناصر الوطنية النزيهة في مقدّمة من يفترض فيهم التصدّي لتشكيل النواة لهذا الإجماع المطلوب.

أما الرهان على عامل خارجي ينقذ الدولة من الانهيار، وإنْ كان موضع قبول لدى عراقيين كثيرين، إلا أنه يظل رهاناً خاسراً في النهاية، ومحفوفاً بالمخاطر والشرور. وقد عشنا هذه الحالة من خلال التدخل العسكري المباشر الذي نفذته الولايات المتحدة، وكانت حصيلته بدرجة عالية من السوء لم تكن في حسبان حتى الذين كانوا يُحسنون الظن بواشنطن، ويمنّون أنفسهم بقدرتها على صنع نظام على مقاسهم.

يبقى معلوما أن الإصلاح الاقتصادي والمالي المطلوب يمثل أحد وجهي "عملة" الإنقاذ الحقيقية لوقف الانهيار، وجهها الآخر إصلاح سياسي يُنشئ "عملية سياسية وطنية" تنبثق عنها مؤسّسات وتشريعات جديدة. وفي ظل العجز الكامن في الحال التي نحن بصددها يبدو تحوّل العراق من دولةٍ فاشلةٍ مثلومة السيادة، وغير قادرة على تلبية مطالب مواطنيها في الحياة الحرّة والعيش الكريم، إلى دولةٍ مفلسةٍ أمراً طبيعيا، ونتائجه معروفة، وهذا ما حذّر منه برلمانيون أخيراً، وحسناً فعلوا.

Read Entire Article