اللامركزية في سورية الجديدة

5 days ago 4
ARTICLE AD BOX
بعد سنوات من النضال والتضحيات، وبعد أن طوت سورية صفحة الاستبداد بانتصار ثورتها، تبدأ اليوم مرحلة إعادة بناء الدولة على أسس جديدة: يفترض أن يكون أساسها العدالة، المواطنة، التعددية، سيادة القانون. وفي صميم هذا المشروع الوطني، يُطرح سؤال محوري: كيف تُوزّع السلطة في سورية الجديدة؟ وهل تُعدّ اللامركزية جزءًا من هذا التصور؟ وإذا كانت كذلك، فبأي صيغة: إدارية أم سياسية؟

الحديث عن "اللامركزية" لا يمكن فصله عن طبيعة التعدد السوري – القومي، والديني، والمناطقي – لكنه أيضًا لا يمكن أن يُستورد من تجارب خارجية دون فهم عميق للواقع المحلي وتوازناته. وهنا تظهر أهمية التمييز بين اللامركزية السياسية، التي قد تمس جوهر السيادة، واللامركزية الإدارية، التي تُعيد توزيع الصلاحيات في إطار الدولة الواحدة.

اللامركزية السياسية: تقنين الانقسام تحت غطاء قانوني

اللامركزية السياسية تعني منح الوحدات المحلية صلاحيات دستورية وتشريعية قد تشمل تشكيل برلمانات محلية، أجهزة أمنية مستقلة، وحق توقيع اتفاقات خارجية محدودة. في دول ذات نظم ديمقراطية مستقرة ومؤسسات متجذرة، يمكن لهذا النموذج أن يُدار ضمن وحدة الدولة. أما في سياقات هشّة كالحالة السورية، الخارجة من صراع مدمر، فإن مثل هذه الصلاحيات قد تفتح الباب أمام تشظي السيادة الوطنية.

أمثلة تحذيرية – من خارج النموذج الفيدرالي التقليدي

العراق بعد 2003: تحولت الصيغة اللامركزية إلى ممر لانفصال فعلي، خصوصًا مع إقليم كردستان الذي مارس صلاحيات سيادية وذهب إلى استفتاء على الاستقلال، ما زاد من هشاشة الدولة.

ليبيا ما بعد الثورة: أدى غياب سلطة مركزية فعالة إلى نشوء سلطات محلية متنافسة، طالبت بصيغ حكم ذاتي واسعة، فنتج عن ذلك انقسام سياسي وأمني حاد.

يوغوسلافيا والاتحاد السوفييتي: تم تأطير اللامركزية على أسس قومية، ما جعل خيار الانفصال حاضرًا وجاهزًا بمجرد حدوث أي أزمة داخلية.

إن التجارب السابقة، مع كونها لا تنتمي للاتحادات الفيدرالية الدستورية المستقرة، تؤكد أن تطبيق اللامركزية السياسية دون توافق وطني راسخ وضمانات سيادية صارمة، قد يكون مقدمة لتفكك الكيان الوطني بدل إدارة تنوعه.

اللامركزية الإدارية: نموذج عملي لوحدة عادلة

في المقابل، تتيح اللامركزية الإدارية إعادة توزيع الصلاحيات التنفيذية والخدمية ضمن إطار سيادي موحد. فهي لا تمنح سلطات تشريعية موازية، بل تُقرّب عملية اتخاذ القرار من المواطن، وتُعزز الكفاءة في إدارة الشأن المحلي، دون المساس بهيكل الدولة.

هذا النموذج لا يُعد حكرًا على تجارب محددة، بل هو السائد فعليًا في معظم الدول الديمقراطية المعاصرة، خصوصًا في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، حيث تتمتع البلديات والسلطات المحلية بصلاحيات واسعة في مجالات كالتعليم، والنقل، والتنمية، دون أن يتعارض ذلك مع وحدة التشريع والسيادة.

أمثلة ملهمة:

فرنسا: رغم مركزية النظام السياسي، فإن الدولة تطبق لامركزية إدارية فعالة تمنح البلديات والأقاليم دورًا واسعًا في تقديم الخدمات، ضمن وحدة تشريعية صارمة.

الهند: حافظت على تماسكها رغم التعدد اللغوي والديني، من خلال تمكين السلطات المحلية في المهام الخدمية والتنموية، دون منحها صلاحيات تهدد السيادة الوطنية.

إسبانيا: طبّقت نموذجًا مرنًا يمكّن الأقاليم من إدارة شؤونها الثقافية والخدمية، خصوصًا في كتالونيا والباسك، ضمن إطار دستوري موحَّد.

إن ما يجمع هذه النماذج أن معظمها – رغم التفاوت في الأنظمة – يتبع نمطًا إداريًا لا مركزيًا واسع الصلاحيات، يعزز الديمقراطية المحلية من دون أن يهدد كيان الدولة.

سورية الجديدة: دولة موحدة، متعددة الإدارات لا السيادات

في سورية ما بعد الثورة، تبدو اللامركزية الإدارية الطريق الأكثر واقعية وعدالة لتحقيق تطلعات السوريين، وإنهاء عقود من التهميش الجغرافي والسياسي. فهي تتيح للمجتمعات المحلية أن تكون فاعلة في إدارة شؤونها، دون خلق كيانات موازية للدولة.

إن تبني هذا النموذج هو استجابة ذكية لتنوع سورية القومي والديني، حيث يمكن للأكراد وغيرهم التعبير عن هوياتهم الثقافية واللغوية، ضمن مشروع وطني جامع، لا في كيانات منفصلة أو محاصصات تهدد التماسك الوطني.

سورية الثورة.. لا سورية المجزّأة

إن بناء سورية الجديدة لا يعني إعادة إنتاج الدولة المركزية الأمنية، لكنه أيضًا لا يسمح بتفتيتها إلى كيانات تتنازع السيادة. المطلوب هو عقد اجتماعي جديد، يُعيد تأسيس الدولة على أسس ديمقراطية ومدنية، من خلال آليات لامركزية إدارية تُعزز المشاركة، وتُقوي الانتماء، وتُحقق العدالة بين جميع أبنائها.

الطريق إلى سورية المستقبل لا يمر عبر تفويض السيادة، بل عبر توسيع المشاركة. لا عبر تقاسم الدولة، بل عبر توزيع عادل لصلاحياتها.

Read Entire Article