المخاض السوري... ضرورة تغيير المسار

2 weeks ago 5
ARTICLE AD BOX

لا يشكل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سورية عاملاً حاسماً في إخراجها من عنق الزجاجة؛ فهو مشروطٌ بتنفيذ طلبات كبيرة وحسّاسة لهذه الدول، كما لا يمكن أن يكون له تأثير كبير على قرارات الدول والشركات الخاصة للاستثمار في سورية ما لم توفر السلطة السورية الجديدة بيئةً مناسبةً للاستثمار تبدأ باستقرار سياسي وضمانات مالية للمستثمرين، بدءاً من تحرير سعر صرف العملة الوطنية إلى قانوني استثمار وضرائب مشجعين وقضاء مستقل وضمانة لتحويل الأرباح إلى الشركات الأم في الخارج، خصوصاً أنّ الظروف الراهنة تحتّم الاعتماد على الاستثمارات العربية والأجنبية الخاصة، التي تسعى نحو الربح المضمون، بسبب اهتمام دول الخليج باسترضاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عبر الاستثمار المكثف في الاقتصاد الأميركي، بدءاً بضخ مليارات الدولارات في المجمّع العسكري الصناعي من خلال العقود العسكرية والاستثمارية، ووجود ساحاتٍ أخرى تستدعي مشاركة مالية خليجية فيها، مثل إعمار قطاع غزّة، قدّرت كلفة إعادة اعماره بـ 52 مليار دولار. وهذا مع توجّه أسعار النفط إلى الانخفاض تحت ضغط رفع سقف الإنتاج بطلبٍ من ترامب، ما سيقلّل عائدات دول الخليج من البترودولار ويدفعها إلى الوقوع في حالة عجز مالي، وفق تقديرات الخبراء، وتوجه دول أوروبية إلى رفع سقف ميزانياتها العسكرية لمواجهة التغوّل الروسي؛ ما سيحد من قدرتها على الاستثمار في سورية.

يستدعي تفعيل رفع العقوبات من السلطة السورية الجديدة تنفيذ المطالب الأجنبية أو تقديم إجاباتٍ مقنعةٍ كي تضمن رفعاً دائماً للعقوبات وعدم العودة إلى فرضها ثانية؛ كما يستدعي منها تبنّي سياسة شفافة عن توجهاتها وخياراتها السياسية والاقتصادية الوطنية لتوفير استقرار سياسي، مع ضرورة انطواء هذه التوجهات والخيارات على توفير شرطي النجاح: العقلانية والعملية، أي أن تكون قراراتها وإجراءاتها إن في مجال ردّها على المطالب الأجنبية أو في مجال خياراتها الوطنية قابلة للتبرير عقلياً وللتنفيذ عملياً في الوقت نفسه، فإصدار قرارات وإجراءات عامة لا تعتبرها الدول الأجنبية كافية أو مقنعة تبرّر ديمومة رفع العقوبات سيضيع فرصة ديمومة رفعها؛ وغياب الشفافية والوضوح عن السياسات والأهداف المنشودة وطنياً سيجعل حصول إجماع وطني حول هذه الخيارات، سياسياً واقتصادياً، مستحيلاً ما يبقي على التوتر والانقسام ويقضي على فرص حصول استقرار سياسي. الموقف دقيق وخطير في ضوء وجود طلباتٍ خارجيةٍ تتعارض مع الخطوط الحمر الوطنية، مثل التطبيع مع الكيان الصهيوني من دون ربط ذلك بإعادة الأراضي السورية المحتلة كاملة، واعتماد السلطة السورية الجديدة في تعاطيها مع القضايا الوطنية سياسة غير شفافة وتجاهلها تحفظات قوى سياسية واجتماعية على توجهاتها السياسية والإدارية وعلى عدد كبير من قراراتها، سيدفع الحالة العامة نحو الترهل والاستنقاع.

لا يتحقّق الاستقرار بالاستثمارات الخارجية، بل من خلال إطلاق مسارٍ سياسي داخلي يحقق التوازن والتكامل بين المكونات المجتمعية

يشكّل الاستقرار الداخلي العامل الرئيس في توفير مناخ إيجابي للولوج إلى تفاعلات سياسية واجتماعية بين مكوّنات المجتمع السوري والسير نحو اندماج وطني، وتحقيق الاستقرار الداخلي يقتضي اعتماد سياسات داخلية تستبطن توفير عوامل رضا مجتمعي على الصعيدين السياسي والاقتصادي، تكون أساساً لعقد اجتماعي وطني متفق عليه، فعدم استهداف تحقيق رضا وطني عام بمثابة زرع حقل ألغام في المجتمع والدولة السوريين، حيث إن الاتفاقات القائمة على الغلبة أو على الإرادة الناقصة لا تحقّق استقراراً مستداماً. وهذا للأسف ما قامت وتقوم عليه سياسات السلطة السورية الجديدة، إنْ بتجاهلها تحفظات مكونات وقوى سياسية واجتماعية سورية، الكرد والموحدين الدروز والعلويين بشكل خاص، أو في فرضها أمراً واقعاً عبر القرارات والتعيينات ذات اللون الواحد، بما في ذلك منح مقاتلين من هيئة تحرير الشام رتباً عالية، عمداء وألوية، مع أن أعمارهم وخبراتهم لا تتناسب مع هذه الرتب، لتبرير تسليمهم مناصب حساسة في وزارة الداخلية أو بعدم اعتمادها الشفافية في خياراتها السياسية والاقتصادية والإدارية، ناهيك عن ما تثيره طروحات ودعوات تطرحها شخصيات من محيط السلطة، مثل الدعوة إلى بعث الأموية، أي إقامة سلطة عربية سنّية، أو الدعوة إلى إقامة نظام ملكي دستوري في سورية، بذريعة أن النظام الملكي يحقق الاستقرار أكثر من النظام الجمهوري، أو ترويج إقامة نواة سنّية عربية صلبة، تكون عصبية للسلطة وأداة لتحقيق الغلبة والسيطرة على المجتمع والدولة، وما تثيره من هواجس ومخاوف وانعكاسها شديد السلبية على وحدة سورية واستقرارها وسيادتها في ضوء ما يترتّب عليها من انقسامات داخلية ومداخل لقوى خارجية تبحث عن النفوذ والمكاسب الجيوسياسية. أهي طروحاتٌ ودعواتٌ إلى تشتيت الانتباه أم بالونات اختبار لمعرفة رد فعل المجتمع تمهيداً لتبنّي أحدها أم تعبير عن عدم امتلاك السلطة الجديدة رؤية موحّدة وخيارات نهائية سوى خيار السيطرة وفرض أمر واقع على المجتمع؟.

تعتمد السلطة السورية الجديدة سياسة كسب الوقت والعمل على تسجيل نقاط لصالحها، خاصة في مجال العلاقات الدولية ونيل رضا قوى دولية وإقليمية

تعتمد السلطة السورية الجديدة سياسة كسب الوقت والعمل على تسجيل نقاط لصالحها، خاصة في مجال العلاقات الدولية ونيل رضا قوى دولية وإقليمية، لإقناع مكوّنات سورية، الكرد والموحدين الدروز والعلويين، بأن معركتها خاسرة وأن الأجدى لها الالتحاق بالرّكب والقبول بما يُعرض عليها قبل أن تضيع عليها الفرصة وتكون خسارتها شاملة. تعتمد السلطة الجديدة هذه السياسة في ضوء قناعة لديها أن القوى الدولية والإقليمية موافقة على ما تفعله في معركة عضّ الأصابع مع المكونات القومية والمذهبية المتحفظة على سياساتها وخياراتها بدليل أنها باركت كل قراراتها وخطواتها وساعدتها سياسياً وعملياً في احتواء مشكلات عديدة، مثل مجازر الساحل ضد المدنيين العلويين، ومنحتها فرصة لتسجيل نقاط لصالحها، مع تركيزها، القوى الأجنبية، على مطالب تتعلق بأمنها الوطني، مثل قضايا اللاجئين والإرهاب وإيران وروسيا والكبتاغون، ومصالحها الجيوسياسية عبر العمل على تحقيق استقرار إقليمي والانفتاح على الكيان الصهيوني؛ ما يدفعها إلى التركيز على الاستقرار وعدم الاهتمام بحقوق المواطنين السوريين والمكونات القومية والمذهبية وتطلعاتهم إلى الحرية والكرامة، خصوصاً إذا تحولت هذه المطالب إلى سببٍ لعدم الاستقرار، وهو ما عكسته تعليقات هذه الدول المرحبة، إن على همروجة مؤتمر الحوار الوطني أو على الإعلان الدستوري، وتجاهلها ما انطوى عليه من عيوبٍ وعلى تشكيل لجان وظيفية، لجنة للعدالة الانتقالية، ولجنة للبحث عن المفقودين بشكل خاص، حيث اكتفت بالعنوان من دون تدقيق بالصيغة كاملة وبمدى صلاحيتها لتحقيق الهدف المعلن من تشكيلها. وهذا شجع السلطة الجديدة على استخدام المواجهات الدامية في الساحل وجرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء في صياغة توازن قوى يخدم هدفها في السيطرة أساسه تجييش السُنّة عبر تخويفهم من ضياع انتصارهم وعودة النظام البائد وردع بقية المكونات باتهامها بالانفصالية والسعي لإقامة نظام محاصصة طائفي من دون اعتبار للآثار السلبية التي تترتب على ذلك بتدمير الثقة المتبادلة التي تمس الحاجة إليها من أجل نجاح العملية الانتقالية؛ فجوهر السياسة يكمن في إدارة الاختلافات ومعايرتها بحيث تحقق هدفاً رئيساً، وهو التعايش السلمي بين مكوّنات المجتمع؛ ما يعني أن المواجهات التي حصلت قرينة على فشل السلطة الجديدة في تمثيل كل السوريين وفي طمأنة المكوّنات السورية على مصيرها ومستقبلها.

جوهر السياسة يكمن في إدارة الاختلافات ومعايرتها بحيث تحقق هدفاً رئيساً، وهو التعايش السلمي بين مكوّنات المجتمع

لن يتحقق الاستقرار الداخلي من دون مواجهة استحقاقاته بشكل مباشر عبر الدخول في مفاوضات جدّية بشأن مطالب هذه المكونات والبحث عن صيغ مرضية حولها؛ ووضع عقد اجتماعي يحمي التنوع ويمنح جميع المكونات ضمانات دستورية في دستور أساسه التشاركية والتعدّدية والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات وسيادة القانون والفصل بين السلطات وتشكيل جيش وأجهزة أمنية مهنية وعلى أسس وطنية، فالتهديد الحقيقي لا يكمن في وجود تعدّد وتنوّع قومي وديني ومذهبي، بل في إنكار حقيقة أن بناء سورية الجديدة يتطلب شراكة وطنية تشعر أطراف هذا التعدّد والتنوع أنهم شركاء حقيقيون في الدولة السورية.

وعليه، سيشكل رفع العقوبات سلاحاً ذا حدّين، يساعد من جهة في تخفيف القلق والتوتر الداخلي بالمساعدة على حل مشكلات الحياة اليومية للمواطنين، الغذاء والخدمات، ويمنح، من جهة أخرى، السلطة السورية الجديدة فرصة تنفيذ تصوّرها لضبط المجتمع عبر توفير الأمن والغذاء وإغلاق باب الحرّيات العامة والخاصة، كما فعلت في مرحلة إدلب، سياسة لم تنجح في تحقيق الاستقرار في إدلب، حيث خرجت تظاهرات كبيرة واعتصامات طويلة، كان شعارها المركزي حل جهاز الأمن العام واستقالة الجولاني؛ لكنها قد تستمر بعض الوقت مستفيدة من تأييد السُنّة العرب أو صمتهم. وهذا يستدعي من السلطة الجديدة التدقيق في خياراتها وإعادة النظر في خياراتها وصياغة توجهاتها بدلالة تحقيق الاستقرارين، السياسي والأمني؛ فالاستقرار لا يتحقّق بالاستثمارات الخارجية، بل من خلال إطلاق مسارٍ سياسي داخلي يحقق التوازن والتكامل بين المكونات المجتمعية، فالمخرج يبدأ في السياسة وينتهي فيها ولا بديل عن ذلك.

Read Entire Article