الملحّن والمغنّي أحمد شريف... شروط النسيان

5 days ago 5
ARTICLE AD BOX

يرى كثير من المهتمين بالتراث الغنائي المصري أن الملحن والمطرب أحمد شريف (1916- 1969) يعد رائد الأغنية الشعبية، أو هو على أقل تقدير أحد الأسماء الكبيرة التي صاغت شكل الغناء الشعبي في مصر خلال القرن الماضي.

وضع الرجل عدداً كبيراً من ألحان الأغاني النقدية والفكاهية، وتصدى لتلحين عدد من الصور الإذاعية الناجحة، لكن حالة انقطاع واضحة وقفت حائلاً بين شريف وبين الأجيال الجديدة التي لم تعش عصر الإذاعة، فلا يكاد يعرفه أحد، إلى درجة أن بعض ألحانه صارت أشهر منه.

تخرج من معهد الموسيقى الشرقية أواخر الثلاثينيات، وأتقن العزف على آلة القانون، ثم انخرط في الحياة الفنية العملية عبر تلحين الاسكتشات المسرحية في "كازينو بديعة"، الذي احتضن معظم المواهب الموسيقية والغنائية المتألقة في سماء العاصمة المصرية.

وبالرغم من أن الجماهير في مصر والعالم العربي كله تعرف الأغنية الرمضانية الشهيرة "وحوي يا وحوي" التي تبث في معظم التلفزات والإذاعات العربية بصوت المطرب أحمد عبد القادر، إلا أنه من النادر أن نعثر على من يعرف أن شريف هو ملحن هذا العمل الأيقوني واسع الشهرة.

تمنح قصة أحمد شريف مشروعية للأسئلة عن نواقض الشهرة الفنية، وكيف يصبح هذا الملحن شهيراً ويمسي من هو أفضل منه مغموراً؟ لِمَ يتألّق مطرب ويخبو آخر؟ وما هي الشروط الواجبة لتحقيق الشهرة والجماهيرية الواسعة؟ لِمَ يعرف رجل الشارع محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش؟ ولم تنحسر هذه المعرفة إذا انتقلنا إلى أسماء محمود الشريف أو أحمد صدقي أو عبد العظيم محمد؟ ولم تنعدم المعرفة بأسماء حسين جنيد أو عبد الرؤوف عيسى أو مرسي الحريري أو أحمد شريف؟ وهل من العدل رد أسباب الانتشار أو الانحسار إلى جودة الألحان أو جمال الغناء؟

لا يستطيع أحد أن يجحد أهمية الجودة، مع الإقرار بكونها مفهوماً فضفاضاً يصعب أن ينضبط، لكن اللحن الجيد لن يعرف طريقه إلى الجماهير الواسعة إلا عبر صوت يتمتع بشعبية مقدرة، ثم تأتي المرحلة التالية متمثلة في تكرار البث إذاعياً، وقد كانت الإذاعة دائماً قادرة على توسيع جماهيرية أغنية ما، عبر تكرار بثها على فترات متقاربة، كما كانت قادرة على إلقاء أغان أخرى في غيابات النسيان بركنها على الأرفف، حتى يعلو الغبار غلاف شريطها. وقد كان هذا الإهمال مصير كثير من أغاني أحمد شريف وألحانه، لا سيما بعد رحيله، ثم مرور أكثر من نصف قرن على هذا الرحيل.

لكن بعض أعمال الرجل أفلتت من مصير الإهمال والنسيان، وفي المقدمة منها لحنه الشهير "وحوي يا وحوي" الذي غناه المطرب أحمد عبد القادر، فصار أيقونة من أيقونات شهر رمضان، تبثه الإذاعات والتلفزات العربية كل عام على مدار شهر الصيام، وتستمع إليه الجماهير في كل مدينة أو قرية عربية من دون انتباه إلى اسم ملحنه. إنه أبرز مثال لاشتهار عمل فني على حساب مبدعه.

ومن أعمال الشريف التي حققت قدراً لا بأس به من الانتشار أغنية "العرقسوس" التي لحنها الرجل وغناها بنفسه من كلمات حسين حلمي المانسترلي، ويقول مطلعها: "يا عرقسوس شفا وخمير.. ياللي الليمون منك يغير.. قرب ودوق الحلويات.. وقول لي يا بتاع الشربات.. نعنشني.. فرفشني.. دندشني.. من العصر للعصر بجيله.. وأبيعه وأفضل أغنيله.. شفا وخمير يا عرقسوس".

عبر شركات الأسطوانات حققت الأغنية قدراً من الانتشار، بسبب لحنها السهل الخفيف. ظهرت هذه الأغنية التي تتحدث عن أحد أشهر المشروبات الشعبية في مصر عام 1938، لكن يستعيدها اليوم بعض المطربين الشباب، فتجد ترحيباً كبيراً لدى المستمعين.

تتميز قائمة أعمال شريف بتنوع وثراء، وهو صاحب أشهر مجموعة ألحان للزفاف، وعلى رأسها الأغنية الشهيرة: "مبروك عليكِ عريسك الخفة.. يا عروسة يا زاينة الزفة"، التي غنتها المطربة سيدة حسن، التي غنت لشريف أيضاً: "اتمخطري يا حلوة يا زينة.. يا عروسة من جوا جنينة".

حفظت الجماهير هذه الألحان بسبب تكرارها بثاً واستخدامها كثيراً في الأفلام السينمائية عند مشاهد الأفراح والزفاف، لكن كما هو معتاد، اشتهر اللحن دون ملحنه، وحتى من دون اهتمام باسم المغنية سيدة حسن التي تعاون معها شريف كثيراً، وقدم لها عدداً من ألحانه، بل وشاركها الغناء في أكثر من محاورة أو صورة إذاعية، ومن تلك الأعمال تمثيلاً: اسكتشات السبوع، والروبابيكيا، والمندل، والفيلسوف، والسكران، وقضية عيوشة، وكفى الله الشر، وغيرها من الأعمال التي قدمت إذاعياً أو سينمائياً.

أقبلت شركات الأسطوانات على الألحان الشعبية والفكاهية التي صاغها أحمد شريف لعدد من المطربات، لا سيما الحوارات الغنائية التي كان شريف نفسه أحد طرفيها، فطبعت شركة بيضافون ديالوغ "أبطال الفشر" له مع المطربة سميرة وصفي، كما طبعت له ديالوغ "الأزمة" مع المطربة رتيبة أحمد، وطبعت شركة أوديون ديالوغ "نبين زين" مع المطربة آمال حسين، كما طبعت له أغنية "رقص الحمام" من فيلم وراء الستار إنتاج عام 1937، وطبعت شركة هز ماسترز فويس ديالوغ مغرم بلدي، له مع المطرب حسين إبراهيم، وطبعت شركة كايروفون "النونو" وهي صورة غنائية ثلاثية "تريالوغ" مع الآنسة أوسة وأحمد عبد الله، وقدم الموسيقار محمد عبد الوهاب الأسطوانة بصوته.

الأمثلة السابقة ليست إلا إشارات غير حصرية لإقبال شركات الأسطوانات على إنتاج أحمد شريف التلحيني والغنائي، وهذا الإقبال يعني أن أعمال الرجل كانت قادرة على النجاح الجماهيري في صورته التجارية التي يمكن للشركات أن تجني الأرباح من ورائها.

يبدو أن النجاح في تلك الألحان ذات الطابع الخفيف أو الفكاهي شجع شريف على الاستمرار في نفس الطريق، وإنتاج مزيد من تلك الألحان، فسمعت الجماهير منه عشرات الأعمال الفكاهية منها: الأدباتي، شهادة الزور، الضرتين، القرداتي، بياع الكتاكيت، أنا واد مدأدأ، أعمل لك حجاب، حلاوة زمان يا ولد.

لكن لكل قاعدة استثناءات، إذ يكشف مسرد أعمال شريف عن بعض الأعمال الجادة، إذ قدّم الرجل للمطربة سيدة حسن أغنية جميلة تدعو لتشجيع الصناعة الوطنية: "لبسني من صنع بلادي.. وأوهب لك روحي وفؤادي"، كما قدم بعض المواويل الرصينة.

يبقى العامل المشترك بين ألحان أحمد شريف وأغانيه أنها على اختلافها وتنوعها وتفاوت مستويات انتشارها كانت كلها أشهر من صاحبها، فمن لم تعرفه الجماهير بعمل مثل "وحوي يا وحوي" لن تعرفه بما هو أقل جماهيرية وانتشاراً.

ينتمي أحمد شريف إلى ثلة نادرة من الملحنين الذين أتقنوا العزف على القانون، واستخدموه في صياغة ألحانهم وتحفيظها للمطربين والمطربات، وليس على آلة العود كما هو معتاد. كان يعزف خلف سيدة المسارح بديعة مصابني، لا سيما عندما تؤدي أغاني الزفة، ثم يرجع إلى بيته ليواصل نشاطه التلحيني والغنائي وتلبية طلبات شركات الأسطوانات.

لكنه في الوقت عينه كان رجلاً محافظاً متديناً. تتحدث مصادر متعددة عن تصوفه والتزامه بإقامة حضرة ذكر مساء كل يوم سبت في مسجد زين العابدين بمنطقة السيدة زينب بالقاهرة، وخلال هذه الحضرة يقدم ألواناً من التسابيح والإنشاد الديني بحضور بطانة مكونة من بعض الشيوخ والفنانين المعروفين. إن الدرس الأكبر الذي تقدمه مسيرة أحمد شريف يتلخص في تلك العبارة المملة التي تقول إن إداراة الموهبة لا تقل أهمية عن الموهبة.. وإن شروط الانتشار تختلف كلية عن شروط البقاء والخلود.

Read Entire Article