ARTICLE AD BOX
في كتابها "أصول التوتاليتارية"، تقول الفيلسوفة حنة أرندت "في عرف الديماغوجية، ليس من وسيلة أفضل لتجنب النقاش، من ربط حجة داعية إلى مراقبة الحاضر، والقول إنّ المستقبل وحده كفيل بإثبات حسناته".
تذكُر حنة أرندت أنّ أوّل ما يفعله الديماغوجي حين يضيق بالنقد هو تهريب النقاش من راهنٍ قابل للقياس إلى مستقبلٍ معلَّق لا يملك أحد مفاتيحه؛ فبمجرّد أن تُربَط إجراءات الحاضر بفضائل لن تُختَبَر إلا فيما بعد، يصبح الاعتراض اليوم حُكماً متعجِّلاً أو قصوراً في الرؤية.
هذه الحيلة، التي رأتها أرندت شرياناً حيوياً للخطاب التوتاليتاري، تتيح للسلطة أن تتصرّف بلا مساءلة تحت شعار "دعوا النتائج تتكلم لاحقاً". ما يحدث في سورية بعد سقوط نظام الأسد وصعود قيادة أحمد الشرع يُبرهن كم أنّ الدرس ما زال طازجاً؛ فالسلطة الجديدة، متحصّنةً بسمعة "المُخلِّص" ومؤازَرة بانكسارٍ شعبيّ بعد حربٍ مدمّرة، استثمرت أسابيعها الأولى في تكريس أدوات مستقبلية للهيمنة بدل وضع أسسٍ شفافة للحكم.
لقد عُقد "مؤتمر الحوار الوطني" على عجل، بلا معايير تمثيل معلَنة، فاقتصرت عضويته على شخصيات جرى تجميعها بلا رؤية واضحة، وتحوّل المؤتمر من ساحة تفاوض إلى غرفة إعلانٍ لسياسات جاهزة سلفاً. بعبارات أرندت، لم يكن الغرض صياغة فضاء عمومي يتشارك فيه المختلفون البحث عن حقيقة مشتركة، بل تثبيت سردية تقول إنّ الاختلاف انتهى ولم يبق إلّا التفويض بالتنفيذ. البيان الدستوري الذي تلا المؤتمر كرّس هذا المنحى؛ نُشر بعد إقراره لا قبله، وضمّ موادّ انتقالية تمنح رأس السلطة صلاحيات تشريعية واسعة بزعم السرعة المطلوبة في إعادة البناء. هكذا وُضِع النص القانوني نفسه في منطق الاستثناء الدائم الذي لا يخضع إلّا لمعيار النجاح المؤجَّل؛ إذا أثمرت الخطّة لاحقاً فقد صدق الوعد، وإذا تعثّرت فالذنب في "بقايا النظام القديم" أو "قلّة صبر المنتقدين".
يُقاس الماضي بمسطرة قانونية صارمة بينما يُعلَّق الحاضر بحجة "خصوصية المرحلة" و"ضرورة حماية عملية البناء"
تعيينات الصفّ الأوّل أكملت الدائرة؛ فبدلاً من آلية تنافسية مفتوحة تدعم الكفاءة وتطمئن المكوّنات الاجتماعية، جاء الاختيار من دائرة ضيّقة يدين أفرادها تاريخياً بالولاء للقيادة الجديدة. مَن يراجع السِيَر المهنية يجد خبرات متواضعة في الإدارة العامة، لكن يجد أيضاً روابط قرابة أو تجربة قتال مشتركة في سنوات "الجهاد"، بهذا يندمج الجهاز البيروقراطي باكراً في شبكة ريع سياسية تَحول دون مراقبة مستقلة. هنا يتجلّى تحذير أرندت من أنّ البُنى التي تُقام في الأيام الأولى ليست تفصيلاً عابراً، بل "مَصافٍّ" تُوجِّه مسار السلطة لسنوات، لأنّ طابع الحكم يتبلور حين يتقرّر مَن يمسك بمفاصل القوّة ومتى يكون الحساب.
وإذا انتقلنا إلى ملف العدالة الانتقالية وجدنا المنطق نفسه: إنشاء هيئة تختصّ حصراً بجرائم النظام السابق، مع تجاهل ما يقع من انتهاكات بعد إعلان البيان الدستوري، وما وقع سابقاً من فصائل مختلفة ومن ضمنها القيادة الحاكمة. هكذا تُنزَع العدالة من بعدها الوقائي، وجسرَ عبور إلى الديمقراطية، وتُختزل إلى أداة فرز سياسي؛ يُقاس الماضي بمسطرة قانونية صارمة بينما يُعلَّق الحاضر بحجة "خصوصية المرحلة" و"ضرورة حماية عملية البناء". على أرض الواقع تعني هذه التجزئة سحب حقّ ضحايا قدامى وجدّد في الإنصاف، وتعزيز شعورٍ بأنّ السلطة تمتلك حصانة ما دامت تعد بشيء أجمل غداً. إنها نسخة محلية من منطق "الغاية تبرّر الوسيلة" الذي رأت فيه أرندت بوابة الانزلاق من الاستبداد التقليدي إلى توتاليتارية تبتلع الزمن الحاضر باسم مشروع تاريخي يتجاوز التدقيق.
يستفيد خطاب الشرع ومؤيّديه من وضعٍ نفسيّ أنهكته الحرب والعقوبات؛ فالناس، التائقون إلى استقرارٍ ولو هشّ، يميلون إلى تصديق وعدٍ يُرجئ المواجهة مع التعقيدات، ويعد بحصادٍ وفير بعد حين. غير أنّ تجربة السوريين مع وعود التحديث في عهدَي الأسد تقدّم برهاناً مادياً على أنّ القبول بالاستئثار في لحظة فراغ سياسي يخلق حلقةً يصعب كسرها لاحقاً. فما يُقتطَع من المجال العمومي باسم التعجيل لا يُستَردّ بسهولة، وما يُصاغ من نصوص طارئة يصبح قاعدة، وما يُنسَب إلى "تركة الماضي" يتكرّر إذ يُترك الحاضر بلا رقابة.
ما يُقتطَع من المجال العمومي باسم التعجيل لا يُستَردّ بسهولة
هنا تكتسب مقولة أرندت قيمة عملية؛ لا يوجد مستقبل حرّ من دون مساءلة عن الحاضر. اختبار صدقية السلطة الجديدة لا يحتاج إلى خمس سنوات؛ يكفي فحص شفافيتها اليوم: كيف تعاملت مع كل الاستحقاقات؟ هل كانت شفافة؟ والإجابة بالنفي تعني أنّ آلية الإرجاء تشتغل كما وصفتها أرندت: "دليل البراءة مؤجَّل، بينما قدرة المجتمع على الاعتراض تُنهَك بكثرة الانتظار".
إنّ رفض حُجّة "نحن في بداية الطريق" لا يقتضي إجهاض التجربة، بل وضعها في مواجهة تعهّداتها المعلَنة بمقاييس زمنية محدّدة ومعايير قابلة للتحقّق. فإعلان جدول مراجعة واضح، يحوّل المستقبل من غيبوبة سياسية إلى محطة تدقيق دورية. ونشر المسودّات القانونية قبل إقرارها يردّ ثقة الجمهور عبر إشراكه في صناعة المصير لا استهلاكه. وتوسيع اختصاص هيئة العدالة ليشمل أي انتهاك يقطع الطريق على مفعول "عدالة المنتصر" ويفتح أفق مصالحة تَشمل الجميع بقدر ما تُحمّل الجميع مسؤولية.
ما لم تُبنَ هذه الجسور الآن، سيظل المستقبَل الذي يلوّح به الخطاب الرسمي مجرّد مرآة ضبابية؛ كلّما اقترب الناس منه ابتعد، وكلما سألوا عن حصيلته جاؤوا بحجج إضافية لإرجاء الحساب. حينها يتحقّق ما حذّرت منه أرندت: يتهرّب النظام، ومؤيدوه من النقاش، لا لأنه يمتلك حجة أقوى، بل لأنه نجح في ترحيلها إلى زمنٍ لا يأتي أبداً. والذين يطالبون بانتظار الغد يكتشفون، كما اكتشف الذين سبقوهم، أنّ الحاضر كان هو اللحظة الوحيدة المُمكنة لصون الحرية قبل أن يتحوّل إلى فصل آخر في كتاب الاستبداد.