ARTICLE AD BOX
بدأت إسرائيل منذ يوم السبت الماضي 24 مايو/أيّار بزج أكثر من خمس وعشرين فرقة عسكرية، تشمل مشاة ومدفعية ومدرّعات ووحدات مظلية، في قطاع غزّة، في ما يُعرف بعملية "عربات جدعون". الهدف واضح وصريح: احتلال القطاع بالكامل والسيطرة عليه بالقوّة، وتحقيق تطهير عرقي ممنهج تحت غطاء ما يسمّى "الدفاع عن النفس".
مؤشّرات تحوّل في المزاج الغربي
أعلنت إسبانيا، في سياق التنديدات الدولية وتغيُّر المواقف الغربية تجاه القضية الفلسطينية، ما يُعتبر تحوّلاً لافتاً، مبادرات دبلوماسية تهدف إلى الضغط على إسرائيل لوقف العدوان على غزّة، بما في ذلك الدعوة إلى فرض عقوبات وتعليق اتفاقيات التعاون، وذلك في إطار تحرّك أوروبي أوسع.
إلى جانب ذلك، أظهرت استطلاعات حديثة في ألمانيا تراجع التأييد الشعبي للعمليات العسكرية الإسرائيلية، بينما تصاعدت الدعوات في المملكة المتحدة ودول أوروبية أخرى لوقف مبيعات السلاح لإسرائيل. بدأت أيضاً مؤسسات صحافية وحقوقية مستقلة تصف العدوان على غزة بأنه "وحشي" و"غير متكافئ"، وتطالب بوقف الدعم العسكري وفتح تحقيقات مستقلة في الانتهاكات، إلّا أنّ ذلك لم يفضِ إلى أيّ خطة عملية لإنهاء العدوان الإسرائيلي على القطاع أو تخفيف معاناة الفلسطينيين، خاصة في ظلّ السقوط الهائل بين النساء والأطفال؛ ضحايا هذا العدوان الفظيع.
هذا المزاج المتغيّر، على المستويين الشعبي والسياسي، قد يشكّل بوابة أمل لكسر دائرة الصمت العالمية إزاء فظاعة الجيش الإسرائيلي في غزّة.
العالم كلّه اصطف في خندق واحد بصمته وتواطئه، بينما تقف غزّة وحيدة تواجه آلة القتل بإرادة صلبة لا تنكسر
أما المواقف العربية فقد شهدت تغيُّرات متذبذبة اتسمت غالباً بالتهرّب والتقلّب، بل إن بعض الأنظمة هرولت نحو إبرام اتفاقيات مع إسرائيل، بدلاً من تبني مواقف واضحة وحاسمة تشبه تلك التي ظهرت في بعض الدول الأوروبية.
هذا التصعيد العسكري الكبير لم يلقَ حتى الآن ردة فعل ميدانية أو دولية فعّالة، مما يثير تساؤلات حول جدوى التحرّكات السياسية وقدرة المجتمع الدولي، أو رغبته، على إنهاء هذه الوحشية غير المعهودة، وما تمخّض عنها من مآسٍ إنسانية رهيبة.
حرب عالمية ثالثة بشعار محلي
ما يجري اليوم في غزّة ليس مجرّد حرب على رقعة جغرافية صغيرة، بل هو فصل من حرب عالمية كبرى، وإن بدت ملامحها محلية في الظاهر. العالم كلّه اصطف في خندق واحد بصمته وتواطئه، بينما تقف غزّة وحيدة تواجه آلة القتل بإرادة صلبة لا تنكسر، بلا جيش ولا حلف، بل بإرادة شعب يعجز كلّ القادة عن كسرها.
المستهدف الحقيقي ليس الإنسان الغزي وحده، بل ما هو أعمق من الجغرافيا؛ المستهدف هو الوعي الجمعي العالمي والحقيقة بعينها؛ يقظة الضمير الإنساني، وإمكانية أن ينهض الإنسان الحر في أي مكان فيرفض هذه الإبادة التي يُراد لها أن تُروّج على أنها "دفاع مشروع".
بات قتل مئة طفل يومياً في غزّة مشهداً اعتيادياً لا يهزّ منابر العالم ولا يربك حسابات القادة
لقد بات قتل مئة طفل يومياً في غزّة مشهداً اعتيادياً لا يهزّ منابر العالم ولا يربك حسابات القادة، وكأننا نعيش زمناً جديداً تُكسر فيه مرايا الإنسانية، ويُعاد تشكيل الوجدان العالمي على مقاس الطغاة.
ليست غزّة وحدها المستهدفة، بل الحقيقة ذاتها.
دعم دولي مُعلن وغير معلن وتحالف واسع
ما يجعل الحرب في غزّة جزءاً من حرب عالمية غير معلنة هو الدعم الكبير الذي تتلقاه إسرائيل من تحالف دولي واسع، حيث تُعدّ الولايات المتحدة العمود الفقري للدعم العسكري لإسرائيل، إذ قدّمت مساعدات ضخمة تشمل أسلحة تقليدية وفتاكة ومتطوّرة منذ بداية الحرب. بالإضافة إلى ذلك، قامت الدول الغربية بتشغيل أكثر من 6,000 رحلة جوية ولوجستية لدعم العمليات العسكرية. إلى جانب هذا وذاك، قدّمت دول أخرى مثل الهند وأستراليا وكندا واليابان دعماً عسكرياً متنوّعاً، بينما ساهمت بعض الدول العربية بدعم لوجستي. فضلاً عن الغطاء السياسي من خلال استخدام الفيتو الأميركي المتكرّر في مجلس الأمن (4 مرّات حتى يونيو 2025) لمنع إصدار قرارات تُدين العدوان الإسرائيلي.
تعكس هذه الأرقام والحقائق والحشود الدولية حجم التنسيق والدعم العسكري العالمي الذي يجعل من غزّة ساحة حرب عالمية، ما يبعدها عن كونها صراعاً محلياً عابراً.
آلة إعلامية وقضائية لقمع الحقيقة
بالتوازي مع الحرب العسكرية، جرى إطلاق حملة عالمية لقمع أيّ صوت يعارض العدوان أو يطالب بالعدالة، حيث فُرضت غرامات مالية ضخمة تصل إلى عشرات الآلاف من اليوروهات على مؤسسات إعلامية تدعم القضية الفلسطينية، أو تنشر مواد توثّق الجرائم الإسرائيلية.
سعي لتقويض كل أشكال التضامن والوعي، وضرب إمكانية التحرّك الشعبي المؤثّر ضد الظلم
وهناك أيضاً عشرات الاعتقالات للصحافيين والنشطاء في أوروبا وأميركا بتهم "التحريض" أو "تمجيد الإرهاب"، فقط بسبب دعمهم لغزّة، بالإضافة إلى فصل أكاديميين وموظفين في دول غربية، لا بل طاولت نجوم السينما والإعلام العالمي، بعد مشاركتهم في فعاليات تضامنية، أو نشرهم مقالات تنتقد إسرائيل.
هذه الحملات لا تهدف فقط إلى كتم الصوت، بل إلى تقويض كلّ أشكال التضامن والوعي، وضرب إمكانية التحرّك الشعبي المؤثّر ضد الظلم.
كسر الصمت واجب إنساني
غزّة ليست فقط أرض معركة، بل اختبار قاسٍ للضمير العالمي، فحين يُقتل مئات الأطفال يومياً في صمت مريب، فإنّ القضية لم تعد فقط في القتلة، بل في كلّ من يساهم بصمته في هذه المأساة.
إنّ حماية الحقيقة، وتحقيق العدالة، وكسر دائرة الصمت، هي الطريق الوحيد لإيقاف حكومة نتنياهو المُتطرّفة عن استمرارية الإبادة التي لا تستهدف غزّة فحسب، بل الإنسانية جمعاء والضمير العالمي بُرمّته، فقد باتت المعركة الآن معركة وعي ووجود.