ARTICLE AD BOX
أصبح مألوفاً ومرعباً في آن واحد، أن يستيقظ سكان قطاع غزة على رسائل نصية، أو اتصالات تلقائية أو منشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي من الاحتلال الإسرائيلي تدعوهم إلى "الإخلاء الفوري من مناطقهم"، في مشهد بات يزيد من تعقيد حياتهم وصعوبتها وقساوتها. وترد بلاغات إخلاء المواطنين لبيوتهم ومناطق سكنهم، وكذلك لمدارس ومخيمات النزوح، والتي تعرف بـ"بلاغات الإخلاء المتزامن"، في ظل تفاقم الأزمة المعيشية وتجويع السكان، الأمر الذي يساهم في زيادة الضغط النفسي على مئات آلاف الفلسطينيين.
وتسبّب بلاغات التحذير المنهمرة من السماء أو الوسائل الأخرى في حالة إرباك، خاصة في ظل انعدام الأماكن التي يمكنهم اللجوء إليها بفعل الخطر المحدق، وافتقار السكان إلى أبسط الإمكانيات التي من شأنها نقلهم نحو مكان أقل خطراً. ولا يحظى الناس لحظة تركهم بيوتهم أو مناطق نزوحهم بفرصة لحمل أي شيء، باستثناء الخوف والقلق، فيتدافعون نحو وجهات لا يعرفونها أملاً في النجاة من الموت المحقق، ومن دون ضمانات بالعودة.
وما يزيد مأساة الفلسطينيين لحظة طلب الإخلاء، هو تزامن حالة التشريد المتواصل مع سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية والإنسانية، والتي يسبّبها الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال منذ الثاني من مارس/ آذار الماضي، والذى أدى إلى تفشي المجاعة جراء منع دخول الغذاء والدواء ومختلف الإمدادات.
غزة: رعب بلا مفر
وتستهدف قوات الاحتلال عبر هذه البلاغات مناطق شاسعة، وليس فقط المحيط أو المبنى المستهدف، وتقوم بتعميم الإخلاء بشكل جماعي، ما يخلق حالة من الهلع والتشويش والإرباك، ويدفع آلاف العائلات إلى النزوح القسري نحو المجهول. وتقول الفلسطينية ريم عوني، وهي نازحة من حي الرمال الجنوبي الذي تم تهديده مساء أمس الأربعاء، إنها فكّرت كثيراً قبل التحرك من بيتها المتهالك والمتضرر نتيجة القصف، بسبب عدم معرفتها الوجهة التي يمكنها أن تنتقل إليها.
وتلفت عوني، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن انعدام الأماكن التي يمكنها أن تتوجه إليها كان سيدفعها إلى المخاطرة والبقاء في البيت، إلا أن صراخ أطفالها، وتزامنه مع حالة الإرباك في الشارع دفعها إلى الخروج نحو بيت أقاربها من دون قدرتها على حمل أي أغراض سوى الملابس التي يرتدونها. وتضيف: "نحن نعيش في مأساة حقيقية حتى قبل أوامر الإخلاء، بفعل المجاعة الحقيقية التي حلت بنا، والتي تبقينا طوال الوقت في دائرة القلق لتوفير قوت أطفالنا، في ظل نفاذ المواد الغذائية، أو ارتفاع أسعارها عشرات المرات".
فيما توضح الفلسطينية رزان الحاج أن قطاع غزة باتي يعاني الأزمات المركبة، حيث يتزامن الإخلاء والنزوح والتشريد مع القصف والخوف والجوع، كذلك مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تزيد من قساوة المشهد وقتامته. وتقول رزان، وهي أم لثلاثة أطفال، إنها نزحت ثلاث مرات في أقل من شهر، وهو أمر يسبّب إلى جانب التكلفة المادية المرتفعة، تكلفة جسدية ونفسية أكثر، حيث يصيب أطفالها الخوف والرعب والتشتت في كل نزوح.
وتبين الحاج لـ"العربي الجديد" أن تراكم الأزمات بات يفقدها وأسرتها الشعور بالأمان والاستقرار، خاصة في ظل عدم تمكنها من حمل كلّ أمتعتها في كل مرة بسبب الشح الشديد في المواصلات وغلاء الأسعار. وتقول: "نجبر على ترك أغراضنا التي قمنا بشرائها بأسعار مرتفعة".
ويوضح الفلسطيني محمد أبو طلال (38 عاماً) أنه اضطر إلى الخروج من مدرسة نزوح وسط حي الرمال كان قد نزح إليها بعد تهديد حي الشجاعية شرقي المدينة، وذلك بعد ورود إنذارات بضرورة الإخلاء. ويقول: "نعيش نزوحاً متواصلاً، وهذا أمر مرهق للغاية". ويضيف أبو طلال لـ"العربي الجديد": "مع كل إخلاء نحمل الحقائب الصغيرة والقلوب الثقيلة ونتنقل من حي إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، بلا وجهة ولا قرار (..) هنا النزوح لا يعني النجاة، بل رحلة جديدة من الخوف، والجوع، والانكسار".
الإرباك المقصود
ولا تقتصر أوامر الإخلاءات العشوائية والمتكررة على الحرب العسكرية، بل تعتبر أداة من أدوات الحرب النفسية، التي تهدف إلى إغراق الأهالي في الفوضى، وإعدام الشعور بالأمان، وإرباك جهود الإغاثة، ومنع الاستقرار أو التماسك داخل القطاع. وفي بعض الأحيان، لا يعقب بلاغات الإخلاء أي قصف فعلي، ما يعمق حالة الشك والخوف، ويجعل السكان في ترقب دائم ومنهِك، إلا أن السكان يفضلون عدم العودة خوفاً من المُباغتة في ساعات الليل المتأخرة، والتي لا تمكنهم من الحركة في جنح الظلام.
وتتزامن تلك الأجواء مع أزمة غذاء كارثية تعاني خلالها مئات آلاف الأسر نقص الطعام، حيث الأسواق فارغة، والمخابز مدمرة أو متوقفة عن العمل، والإغاثات الدولية متعطلة، وسط استمرار الإغلاق وتقييد دخول المساعدات.
