ARTICLE AD BOX
لم ينجح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع أفضل تقدير ممكن لنيّات البيت الأبيض، في منع إسرائيل من شنّ عدوان على إيران، وصفته بأنه إجراء لحماية وجودها، بعدما واظبت على مرّ أشهر، بإلحاح، على تحذيره من القدرات النووية الإيرانية، ومن أن طهران تقترب من امتلاك السلاح النووي، لكنّ ما يرشح منذ فجر أول من أمس الجمعة، مع بدء حرب إيران وموجات الهجمات الإسرائيلية الجوية، يشي بأن الهدف الإسرائيلي، أبعد من "ضربة وقائية" أو "استباقية" لإضعاف البرنامج النووي الإيراني، كما أعلنت تل أبيب، بل تشمل لائحة الأهداف، ضرب البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني، وهو مطلب تتوافق حوله مع إسرائيل، قوى عدة، ومنها غربية، لم تكن راضية عن الاتفاق النووي الموقع بين مجموعة الدول الكبرى وإيران في عام 2015. وحتى وفق تقديرات أميركية، فإن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يرغب في إسقاط النظام الإيراني.
وعلى الرغم من الترحيب الأميركي على المستوى السياسي، لدى أكثرية جمهورية وديمقراطية، بالضربات الإسرائيلية، إلّا أنه بعد يوم كامل من حرب إيران التي بدأت فجر أول من أمس الجمعة، بدت الحسابات تأخذ بعداً أكثر جديّة، يتخطى نشوة توجيه صفعة قوية أميركية بأيادٍ إسرائيلية، لإيران؛ إذ تعدّ الحرب الجارية، أول تحدٍّ حقيقي يواجه ترامب، الذي تسلم ولايته الثانية في يناير/كانون الثاني الماضي بعدما انتخبه الأميركيون أولاً على أنه من الممكن أن يكون "صانع سلام". ولكن بينما يسود اعتقاد بأن جولة التصعيد هذه غير المسبوقة، وهي أول مواجهة بهذا الحجم بين إيران وإسرائيل، قد تصبح مفتوحة، وتنزلق إلى حرب أوسع في المنطقة، يخشى مراقبون من أن يكون "الشرطي الأميركي" غير قادرٍ على وقفها هذه المرة. ولهذا السبب؛ ارتفعت سريعاً في واشنطن المخاوف، ومنها الجمهورية، من أن يكون هدف نتنياهو قد تحقّق، وهو جرّ الولايات المتحدة إلى مستقنع حرب جديدة، ما وراء البحار.
حرب إيران... ضوء أخضر رغم التهديدات
ونقل مسؤول إيراني مطلع، أمس السبت، لوكالة فارس الإيرانية للأنباء، عن قادة عسكريين كبار، أن حرب إيران "التي بدأت مع بدء اعتداءات الكيان الصهيوني ستتسع خلال الأيام المقبلة، لتشمل جميع المناطق الواقعة تحت احتلاله، إضافة إلى القواعد الأميركية في المنطقة، وستكون قوى العدوان هدفاً لردّ إيران الحاسم والشامل". وأضاف المصدر أن القادة العسكريين أكدوا أن "هذه المواجهة لن تقتصر على الإجراءات المحدودة التي شهدتها الليلة الماضية (ليل الجمعة ـ السبت، في إشارة إلى الضربات الصاروخية الإيرانية التي استهدفت الأراضي المحتلة، وخصوصاً منطقة تل أبيب الكبرى)، بل ستتواصل الضربات الإيرانية، التي ستكون شديدة الإيلام وتجعل المعتدين يندمون على أفعالهم". وأشار المسؤول إلى أن "التجارب تظهر أن الكيان الصهيوني لطالما أشعل الحروب بجرائمه، إلّا أن المؤشرات تدل على أن الجمهورية الإسلامية تعتزم هذه المرة أن تدفع هذا الكيان الإجرامي وداعميه نحو مصير مظلم"، وأكد القادة العسكريون الإيرانيون، وفق المصدر، أن على إسرائيل والولايات المتحدة أن "تستعدّا خلال الساعات المقبلة لمواجهة عواقب أعمالهما الوحشية الهمجية".
يصوّر ترامب العدوان بأنه مهمة مقدسة لإنقاذ البشرية
وكان وزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده، قد حذّر يوم الأربعاء الماضي، قبل الهجوم الإسرائيلي، من أنه إذا فشلت المفاوضات النووية واندلع صراع مع الولايات المتحدة، فإن إيران ستضرب القواعد الأميركية في المنطقة، مضيفاً خلال مؤتمر صحافي أن "بعض المسؤولين على الجانب الآخر يهدّدون بعمل عسكري إذا لم تؤتِ المفاوضات ثمارها"، وقال: "إذا فرض علينا الصراع، فجميع القواعد الأميركية في نطاقنا وسنستهدفها بقوة في الدول المضيفة".
وكان ترامب قد استخدم خلال المفاوضات النووية التي بدأها فريقه مع إيران في 12 إبريل/نيسان الماضي، وأجريت منها إلى الآن خمس جولات، لغة التهديد باستخدام القوة إذا لم يتوصّل الطرفان إلى اتفاق تضغط واشنطن لتوقيعه بشروطها، وأولها منع طهران من تخصيب اليورانيوم، وهو ما ترى فيه القيادة الإيرانية محاولة إخضاع، وحرمان البلاد من قدراتها، فضلاً عن اعتبار المرشد علي خامنئي أن القدرات النووية لإيران مكتسب وطني يجب الحفاظ عليه.
كما أكد مسؤول إيراني رفيع لشبكة سي أن أن الأميركية، أول من أمس الجمعة، بعد يوم طويل أول من العدوان الإسرائيلي، أن إيران التي استهدفت الأراضي المحتلة بهجمات صاروخية رداً على الضربات الإسرائيلية، ستكثّف هجماتها على إسرائيل، وستستهدف كذلك القواعد في المنطقة لأي دولة تحاول حماية دولة الاحتلال.
وبينما كانت إيران تتحضر للرد على نقاط اقتراح أميركي عرضه فريق ترامب للوصول إلى صفقة، بمقترح مضاد، مع تحديد موعد لجولة سادسة من التفاوض اليوم الأحد في مسقط، جاء العدوان الإسرائيلي، والمباغت، لينسف أي محاولة لبناء الثقة الإيرانية تجاه واشنطن، خصوصاً أن ترامب، الذي كان روّج الإعلام الأميركي طوال الفترة الماضية، أنه كان يضغط على نتنياهو لمنعه من ضرب إيران وإفشال المفاوضات، لم يخفِ دعمه للضربات الإسرائيلية التي اعتبرها "ممتازة"، بل هدّد إيران وقيادتها بلغة اتّسمت بالشماتة والتشفي، بأنها إذا لم تقبل بالعرض الأميركي فإن "شيئاً لن يتبقى منها"، متوعداً بأن حرب إيران ستكون أكثر عنفاً.
وفي ميزان القوة، ورغم عدم التكافؤ العسكري والتكنولوجي والاستخباري الواسع بين الطرفَين، فإن طهران لطالما لوّحت بأوراق لديها، ومنها إغلاق مضيق هرمز، وضرب القواعد الأميركية في المنطقة، إذ إنّ واشنطن في هذا التصعيد عالي المخاطر في المنطقة، تحاول أن تنأى بنفسها عن العدوان، رغم أن حرب إيران تجري بسلاح ودعم استخباري وتقني أميركي، وحظي من دون شكّ بضوء أخضر من ترامب، وأكد الرئيس الأميركي أن الجيش الأميركي "لا يشارك بأي شكل" في الحرب، وحذّر وزير خارجيته ماركو روبيو إيران، من مغبة استهداف المصالح الأميركية في المنطقة، أو الجنود الأميركيين.
رغم ذلك، فإن الكثير من المراقبين يرون أن ترامب جعل نفسه اليوم، في مواجهة متغير كبير في أجندته للسياسة الخارجية التي وعد بها، وعنوانها "أميركا أولاً"، وتقوم على الانكفاء، فبين أن "تُمنح" إسرائيل "ما لم يمنحها إياه أي رئيس آخر"، كما ردّد أول من أمس، وأن تكون رئيساً أميركياً "صانع سلام"، فجوة هائلة تحول دون إمكانية صناعة سياسة خارجية "منكفئة"، خصوصاً مع القيادة الحالية في تل أبيب التواقة لفرض هيمنة إسرائيلية على المنطقة من بوابة تفوقها العسكري، وما ترى فيه انتصاراً لها في معركتها مع خصومها بالمنطقة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتريد إسرائيل "رأس" إيران، بعدما صحّحت وفق قراءات، تراجعاً للهيبة الأميركية، كان سببه الانسحاب الفوضوي من أفغانستان، والتحدي الروسي في أوكرانيا، والصيني في المحيطَين الهادئ والهندي.
ويتعامل ترامب مع حرب إيران كأنها فُرضت على إسرائيل التي تقوم بمهمة "إنقاذ البشرية" من خطر امتلاك إيران القنبلة النووية، فالمهمة كما يصوّرها "مقدسة"، لكن يقابلها في واشنطن، تصاعد المخاوف من خطوة "متهورة"، وليست "نزهة"، إذ ترتسم سيناريوهات عدّة للمشهد المقبل، منها أن تطول حرب إيران وتتحول إلى إقليمي أوسع، ومنها جرّ الجيش الأميركي إلى أرض المعركة.
ونقلت صحيفة واشنطن بوست، أمس، عن مسؤولين إسرائيليين، أن ترامب لم يكن حريصاً على تنفيذ إسرائيل ضربة على إيران، ولم يوافق على المساعدة، ما يتوافق مع تقييمات إعلامية أخرى، بأنه منح نتنياهو ضوءاً بين الأخضر والأحمر، وقالت مصادر الصحيفة، إن نتنياهو أبلغ ترامب الاثنين الماضي أن إسرائيل وصلت إلى نقطة "حاسمة"، لكن ترامب "كان لا يزال متشكّكاً"، ونقلت الصحيفة أيضاً، عن عضو بالكنيست، أن إسرائيل تأمل بأن تتفق الولايات المتحدة معها بأن التخلص من برنامج إيران النووي يكون بإسقاط النظام الإيراني. ويتطابق ذلك، مع تحذيرات في واشنطن لترامب، من أن نتنياهو قد نجح في نسف المفاوضات، وإغراق أقدام الولايات المتحدة في حرب مع إيران.
وتتصاعد هذه الأصوات من حزب ترامب الجمهوري. وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، أول من أمس، فإن الجمهوريين منقسمون بشأن إيران، متسائلة عن الجانب الذي سيميل إليه الرئيس، وكتبت الصحيفة أنّ ترامب يواجه انقسامات داخل حزبه، حول ما إذا كان يجب على الولايات المتحدة أن تنخرط في الصراع؛ فمن جانب، وفق الصحيفة، هناك "المنعزلون الذين يخشون من أن تنجرّ البلاد إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط، ومن جانب آخر هناك الصقور المتشدّدون حيال إيران وداعمو إسرائيل الذين كانوا يدعون منذ سنوات لمثل هذه الحرب". وبحسب "نيويورك تايمز"، فإنّ ترامب "يبدو عالقاً بين الطرفَين، ويتحرك يمنة ويسرى، محاولاً إبعاد الولايات المتحدة عن الهجوم مع الاحتفال بنجاح الهجمات وتحذير إيران من الآتي"، وبحسب الناشط اليميني تشارلي كيرك، فإن هذا "سيحدث شرخاً داخل حركة ماغا (حركة ترامب، لنجعل أميركا عظيمة مجدداً).
صقور واشنطن وداعمو إسرائيل دعوا منذ سنوات لهذه الحرب
ورأى الباحث الكبير في "مجلس العلاقات الخارجية" البحثي، إليوت أبرامز، أن ترامب "بدّل موقفه حيال ما إذا كان على إسرائيل ضرب إيران"، معرباً عن اعتقاده بأن نتنياهو "قام برهان محسوب، فإن ترامب سيوافق على فكرة الضربة"، وأضاف: "لقد راهنوا (الإسرائيليون) على الرئيس".
وبحسب السيناتور ليندسي غراهام، وهو من المتحمّسين للحرب، فإن "عدد الجمهوريين الذين لا يرون أن إيران نووية تشكل خطراً على إسرائيل، صغير جداً، ومعظم الجمهوريين يدعمون ضرب القدرات النووية الإيرانية". لكن مجلة فورين بوليسي، رأت في تحليلَين لها أمس، أنّ العدوان الإسرائيلي يتخطى هدف ضرب القدرات النووية الإيرانية، وبحسب ستيفن كوك، فإنّ إسرائيل تريد "أن توجه ضربة قاضية مميتة ونهائية لما يسمى محور المقاومة بعد أكثر من عام ونصف العام من الحرب"، واعتبر جيفري لويس، في تقرير آخر، أن الحرب "ليست حول منشأة نووية أو مفاعل نووي، إنها حول تغيير النظام (في إيران)"، ولذلك يرى المعارضون من قاعدة ترامب، أن الهجوم وموافقة ترامب عليه يتعارضان مع أجندته "أميركا أولاً"، وبحسب الناشط اليميني كيرك كما نقلت عنه "نيويورك تايمز"، فإنّ "رسائل البريد التي تصله وتعارض الضربة الإسرائيلية، هي بنسبة 99 مقابل رسالة واحدة موافقة".
وفي مدونته الصوتية "غرفة الحرب"، رأى ستيف بانون، المستشار السابق لترامب، الجمعة، أن "آخر الكلام هو أنه لا يمكن أن نُجرّ بطريقة لا مفرّ منها إلى حرب على الأرض الأرواسية في الشرق الأوسط أو في شرق أوروبا (في إشارة أيضاً للحرب الروسية الأوكرانية)".
بعد يومين على العدوان، كثيرون في واشنطن باتوا يعتقدون أن الأمور صارت في مكان آخر، يدور حديث المراقبين حول احتمالاته وآفاقه، فالمواجهة في معظم التقديرات "فيلم طويل" هذه المرة، وليس من المتوقع نهاية لها قبل "أيام عدّة" بحسب الجنرال الأميركي المتقاعد جوزف فوتيل، وربما أطول ومرهون مداها "بالغرض المراد تحقيقه منها". وبحسب ليون بانيتا، وزير الدفاع الأميركي الأسبق، فإن تدمير المنشآت النووية الايرانية "صعب" في غياب القدرات العسكرية المطلوبة مثل القنبلة الخارقة، وفي تعريف العسكريين والمؤرخين، هي "حرب وقائية" وتنطوي عموماً على مخاطر تعميق وإطالة النزاع، ومن الاحتمالات أن يتمدّد الصراع إلى "حرب إقليمية أو فوضى أمنية إقليمية". وللحيلولة دون ذلك، يدعو فريق من المحافظين الذين رحّبوا بالضربة و"شكروا" نتنياهو إلى ضرورة العمل على إسقاط النظام الإيراني، وإذا كان هذا الهدف "بعيد المنال"، لا يرى البراغماتيون (مثل بانيتا) سوى العودة إلى التفاوض مخرجاً من هذه المواجهة المفتوحة، ومثل هذا الخيار مرهون إلى حدّ بعيد بقرار ترامب الذي تشكّل هذه الحرب "اختباراً" له، إذ تلعب الإدارة على خيط رفيع بين التسوية والحرب الواسعة.
