ARTICLE AD BOX
يبدو أن حالة الإحباط الأوروبية من سياسات الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه وصلت أخيراً إلى ألمانيا بقيادة المستشار المحافظ فريدريش ميرز، والمعروف عنه وعن وزير خارجيته يوهان فادفول تأييدهما الكبير لدولة الاحتلال. وبعد نحو أسبوع من تأييد 17 دولة من أصل 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي لمراجعة المفوضية لاتفاقية الشراكة مع تل أبيب، خرجت برلين بتصريحات غير مسبوقة بشأن ثبات علاقتها المركبة بدولة الاحتلال الإسرائيلي.
فمن خطاب التأييد غير المشروط انتقلت ألمانيا في خلال اليومين الماضيين إلى خطاب: "لم أعد أرى منطقاً من تصرفات إسرائيل في غزة"، وأن لا شيء يشرعن ما يجري، وأن" ألمانيا لا يمكنها التزام الصمت إذا استمرت إسرائيل في انتهاك القانون الدولي في حربها مع حماس"، كما ذهب ميرز الاثنين في برلين وأمس الثلاثاء في هلسنكي. بل إن التصريحات الداعية إلى وقف صادرات الأسلحة الألمانية إلى الاحتلال تصاعدت أمس واليوم الأربعاء، بمشاركة برلمانيين من الحزب الديمقراطي الاجتماعي المشارك في السلطة.
وتعد التصريحات الجديدة نقلة نسبية في مواقف ألمانية ثابر السير عليها المستشار السابق من يسار الوسط أولاف شولتز ووزيرة خارجيته أنالينا بيربوك منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. إذ جرت محاولات سريعة لمحاصرة أي عمل تضامني مع فلسطين، بما في ذلك محاولة تجريم رفع العلم الفلسطيني في برلين.
تجنباً لعزلة أوروبية وعن الشارع الألماني
التصريحات الألمانية الجديدة تقرأ اليوم بوصفها خروجاً عما يسمى "منطق الدولة الألمانية في دعم إسرائيل"، والقائم على مسؤولية البلاد عن حقبة النازيين بين 1933 و1945، وفق نظرية " ألا تقصر برلين في حماية حق إسرائيل في الوجود".
ويرى أستاذ الإعلام التطبيقي في جامعة فايمارالألمانية، الألماني-الفلسطيني حسام وهبه علاقة بين ما يجري ألمانيا وارتباطه بتصاعد مواقف أوروبا "وكذلك بما يشاع عن خلاف بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب و(رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين) نتنياهو للضغط على الأخير". وأضاف وهبه لـ"العربي الجديد" أن "الموقف الأوروبي الذي بدأ يتبلور، ومن بينه الألماني، بعد تزايد الحديث عن الذهاب إلى الاعتراف بدولة فلسطينية، يجعل ألمانيا تخشى البقاء معزولة، إذا واصلت انتهاج سياساتها السابقة من خلف الستار أو من الصفوف الخلفية في ما خص جرائم الاحتلال".
وصرح ميرز الاثنين الماضي بأنه:" في ما يتعلق بما يفعله الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة بصراحة، لا أفهم الهدف من إلحاق هذا النوع من الضرر بالسكان المدنيين". وتراقب برلين، صاحبة الموقع الريادي في معسكر أوروبا، تطور مواقف القارة، خصوصا الدولة الجارة فرنسا ودول أخرى، بشأن العلاقة بإسرائيل، وبأنه لم يعد ممكناً تبرير ما يجري في غزة.
وفي السياق أشار في حديث مع "العربي الجديد" العضو القيادي في لجنة فلسطين-شتوتغارت عطية رجب إلى أن "الموقف الألماني يُعد تغيراً في ثبات سياسة دعم الاحتلال الإسرائيلي غير المشروط، كما كانت تفعل حكومة شولتز منذ 2023". وأكد عطية، الذي واجه مع رفاقه الألمان طيلة السنوات الماضية قضية الدعم الألماني المطلق لتل أبيب، على أن هذه المواقف "بالتأكيد يبنى عليها"، مشدداً على أنها "ليست بمعزل عن تحولات في الشارع الألماني، الذي يتراكم رفضه لدعم حكومته جرائم الاحتلال، ويتزايد إعلانه تضامنه مع فلسطين على كافة المستويات، مطالباً سياسييه بانتهاج سياسة صارمة تجاه الاحتلال وتأييدا للحقوق الفلسطينية". وتولي لجنة فلسطين-شتوتغارت أهمية للتصريحات نظراً إلى أن ميرز، وزير خارجيته يوهان فادفول من الأكثر تأييدا للاحتلال، بحجة "منطق الدولة الألمانية" (والقائم على مسؤولية البلاد عن قتل اليهود الأوروبيين على أيدي النازيين بين 1933 و1945).
رفض إساءة استخدام شعار "معاداة السامية"
وتعتبر وسائل إعلام وصحافة ألمانية أن ما يجري "يشير إلى نهج أكثر صرامة تجاه دولة (الاحتلال الإسرائيلي) حظيت بدعم غير مشروط لعقود"، كما كتب الثلاثاء، من بين آخرين، كبير المراسلين في قناة دويتشه فيله ينس ثوراو. وأشار ثوراو إلى أن هذه النقلة من "تركيز على الادعاء بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، وأن حماس تعارض حق إسرائيل في الوجود" أصبحت واضحة في قول وزير الخارجية فادفول إن معاداة السامية وحق إسرائيل في الوجود "لا ينبغي أن تستخدما أداة في الصراع والحرب الدائرة في (على) قطاع غزة". وأكد فادفول قبيل مغادرته إلى واشنطن على أن ممارسات إسرائيل ستستدعي "إعادة النظر" في دعمها، مؤكداً على أنه "في هذه المرحلة، علينا أن نفكر ملياً في خطواتنا التالية".
ونقلت معظم وسائل الإعلام الألمانية قول ميرز أمس في هلسنكي: "لا يبدو لي أن ما حدث في الأيام الأخيرة ضروري لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وهو أيضاً ما وافق عليه رئيس الحكومة الفنلندية بيتري أوربو. وترك الباب موارباً أمام فرضية تغيير برلين لسياساتها تجاه إسرائيل.
وفي السياق الإعلامي، باتت أصداء ما يصرح به قادة الاحتلال والاستهتار بالقوانين الدولية، وانكشاف مستوى الجرائم المرتكبة، تغذي مواقف المعسكر الأوروبي والألماني الذي كان يخشى رفع صوته لرفض دعم بلادهم لجرائم الحرب. وهو ما اعترف به سفير تل أبيب السباق في برلين شمعون شتاين الذي صرح لدويتشه فيله بأن التحول في مواقف ألمانيا فرضته ممارسات حكومة نتنياهو.
وبالتوازي مع هذه المواقف ارتفعت خلال الساعات الماضية الأصوات الألمانية الداعية إلى وقف تصدير الأسلحة إلى تل أبيب. وعبرت عن ذلك القيادية من الحزب الاجتماعي الديمقراطي المشارك في حكومة ميرز وعضو البرلمان الاتحادي (بوندستاغ) إزابيل كاديمارتوري، بقولها : "يجب تعليق صادرات الأسلحة إلى الإسرائيليين، إذ يجب ألا تكون ألمانيا متواطئة في جرائم الحرب التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية". وحذرت من أن ألمانيا قد تُحاكم في المحاكم الدولية إن لم تفعل ذلك.
على كل، بغض النظر ما إذا كانت التصريحات تعكس تغيراً عميقاً في سياسات برلين حول فلسطين فإنها قد تساهم في كسر تابوهات كثيرة بشأن انتقاد جرائم الاحتلال، والتي مارست فيها حكومات البلاد نيابة عن كيان أجنبي ملاحقة مواطني البلاد المتضامنين مع فلسطين، وتكميم أفواه إعلامية وسياسية وأكاديمية بحجة "مكافحة معاداة السامية".
وقد يكون هذا الانتقال في الخطاب السياسي تعبيراً عن قناعة برلين أن سياسة التأييد الأعمى لتل أبيب تضر بسمعتها ومكانتها في أوروبا. ولا يمكن إغفال أهمية أن من يذهب إلى مثل هذه التصريحات هو فريدريش ميرز بنفسه. فالرجل عبر قبل أسابيع قليلة عن إمكانية استقباله لبنيامين نتنياهو برغم مذكرة التوقيف الصادرة بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية، ذلك وسط تحذيرات من أن تجد ألمانيا نفسها ملاحقة بسبب دعم جرائم حرب.
وببساطة يمكن القول إن الحجر الذي ألقي في بركة رتابة وثبات دعم ألمانيا لتل أبيب يصعب محاصرة ارتداداته، خصوصاً على المستويين الشعبي والإعلامي، إن في ألمانيا وأوروبا أو في شارع الاحتلال الإسرائيلي.
