ARTICLE AD BOX
بعد أكثر من ثلاثة عقود على توقيعها، لا تغدو اتفاقات أوسلو أكثر من ترتيبٍ أمني بين المُحتَل والمحتلِ لتكريس الوضع القائم وضمان استمرارية اختلال موازين القوى، فهي ليست ولم تكن قطّ طريقاً للسلام، ولا إطاراً يمكن أن يقرّب الشعب الفلسطيني من تحقيق حقه غير القابل للتصرّف في تقرير المصير، بل إنها جعلت الفلسطينيين أضعف، وأكثر تشرذماً، وأبعد عن إقامة الدولة، ناهيك عن المساواة والعدالة والحرية.
كذلك لم تؤسّس العقيدة الأمنية لاتفاقات أوسلو فقط لإطار دولة محكوم عليه بالفشل، بل إن ما يُروّج من نهج الحكم الرشيد، ومشروع إصلاح القطاع الأمني الذي تبنته السلطة الفلسطينية في العقود الماضية، أسفر عن نمو النزعات السلطوية وبُنى القمع، بدلاً من إرساء عمليات ديمقراطية، وشمولية، وخضوع للمساءلة. واليوم، أصبحت هياكل الحكم الفلسطيني على جميع المستويات ضعيفة وغير ديمقراطية.
يكشف تفكيك اتفاقات أوسلو من خلال منظور أمني عما لا يقل عن ثمانية عناصر تفسّر لماذا يعدّ إطار أوسلو مجرد ترتيب أمني مُسيّس ينتهك حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في الأمن، ويعزّز نظام القهر والتبعية متعدّد الطبقات الذي يُجبَر الفلسطينيون على العيش ضمنه وتحت سطوته.
أولاً، ضمان أمن إسرائيل من خلال البنى المعقدة التي أنشأتها اتفاقات أوسلو، بما في ذلك آليات التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وجهاز الأمن الإسرائيلي، كان سمة أساسية ومحورية في هذا الترتيب. إذ جرى تبني نهج "أمن إسرائيل أولاً" على حساب انعدام الأمن الفلسطيني، وهو ما كرّس اختلالاً مشوهاً في ميزان القوى بين المحتل والمحتل، وأسهم، بشكل كبير، في تعميق "فوبيا الأمن" الإسرائيلية. وتحت ذريعة ضمان أمن إسرائيل، جرى الحفاظ على بُنى الاحتلال العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزّة بدل محاسبتها أو تفكيكها. كذلك، سمح هذا النهج لإسرائيل بتوسيع مستوطناتها بشكل كبير، واتخاذ جميع التدابير التي تراها ضرورية لحماية مستوطنيها، بشكل مباشر أو من خلال مؤسّسات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية. أما الأمن الفلسطيني، فلم يكن فقط ثانوياً، بل جرى انتهاكه وإنكاره جزءاً من عملية ضمان أمن إسرائيل.
ثانياً، على الرغم من أن اتفاقات أوسلو صُمّمت لأداء دور "انتقالي" من المفترض أن يعالج قضايا الوضع النهائي، مثل اللاجئين والحدود، فإنها فعلياً أصبحت إطاراً يُكرّس الوضع القائم، والذي يعني، في الواقع، الإبقاء على الاحتلال الإسرائيلي وتعزيزه بدلاً من معالجة جذوره. وبهذا، تُرك السبب الرئيسي لانعدام الأمن الفلسطيني، وهو الاحتلال، من دون معالجة.
ثالثاً، لضمان استمرار العنصرين السابقين (حماية المحتل واستدامة الوضع القائم)، أصرّت القوى الدولية على إطلاق "عملية تفاوض للسلام" ورعايتها. لكن هذه المفاوضات كانت تُعقد لمجرّد التفاوض (التركيز على العملية لا النتائج)، وليس بهدف التوصل إلى اتفاق حقيقي يضمن السلام أو يحقّق حتى قيام دولة فلسطينية. ومع ذلك، نجحت هذه "العملية" في إيجاد هوس لدى القيادة الفلسطينية بفكرة الدولة، إلى درجة الاعتقاد بأن الدولة الفلسطينية "موجودة بكل شيء ما عدا الاسم"، رغم أن الواقع يثبت أن هذه الدولة مجرد سراب. وبالتالي، بدلاً من الاستثمار في بناء هياكل سياسية شاملة ومسؤولة، اختارت النخبة الفلسطينية المتفاوضة نهجاً عمّق فجوة الثقة، ووسّع الهوة بين الشعب والسلطة، ما أضعف موقفهم التفاوضي، وزاد من انعدام الأمن لدى الشعب الفلسطيني. وهذا يدلّ على أن "عملية السلام" نجحت في عزل النخبة التفاوضية عن الواقع اليومي للفلسطينيين، وأسهمت في إنكار حقوقهم الأساسية وأمنهم الإنساني.
أدّت هيمنة "المؤسسات الوطنية الخطأ" في ظل الحالة الاستعمارية إلى إنتاج بيئة أكثر سلطوية وأمنية على حساب الحقوق والحريات
رابعاً، لا يمكن لإسرائيل، بمحض إرادتها، بوصفها قوة استعمارية ومحتلة أن تسمح بتعزيز سيادة الفلسطينيين أو اعتمادهم على أنفسهم. لذلك، الإبقاء على حالة التبعية، والاحتواء الاقتصادي غير المتكافئ، وديناميكيات "مصفوفة السيطرة"، كلها أدوات تستخدمها إسرائيل وجرى تأطيرها في اتفاقيات أوسلو، من خلال بروتوكول باريس الاقتصادي، والتجزئة الجغرافية للأراضي الفلسطينية (المناطق أ، ب، ج)، ومنظومة التنسيق الأمني التي حوّلت قوات الأمن الفلسطينية صراحةً أو ضمناً إلى مقاول فرعي للاحتلال الإسرائيلي وأداة إضافية لقمع الفلسطينيين بالوكالة. وقد تحولت التبعية من حالة مؤقتة خلال المرحلة الانتقالية إلى سمة بنيوية طويلة الأمد تصف الواقع المسيطر في الضفة الغربية وقطاع غزّة.
خامساً، شكّل إنشاء ورعاية بيروقراطية فلسطينية وطنية من المجتمع الدولي لإدارة حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة تحوّلاً جذرياً في العلاقة بين الشعب الفلسطيني والمؤسّسات المفترض أن تمثله وتقود مشروع تحرّره الوطني. بمرور الوقت، سيطرت بيروقراطية متضخمة وغير فعّالة على المشهد، وقوضت دور منظمة التحرير الفلسطينية وهمّشتها، مما أدى إلى تحوّل (أو بالأحرى انحراف) في طبيعة النضال الفلسطيني وأدواته. أحدث هذا التحوّل بيروقراطية ضخمة توظف نحو 160 ألف شخص (حوالي نصفهم في القطاع الأمني)، ما شكّل عبئاً مالياً ضخماً على مشروع التحرّر الوطني. فشلت هذه البيروقراطية في قيادة عملية بناء الدولة لتحقيق تقرير المصير والحرية، بل ساهمت في تهميش الشعب مكوّناً جوهري لأي دولة، وعزّزت "المؤسّسات الوطنية الخطأ" في ظل الاستعمار. وعلى وجه الخصوص، عزّزت من مكانة المؤسّسات الأمنية لتكريس مصفوفات السيطرة بدلاً من توسيع هامش الحرية أو تقوية قدرة الفلسطينيين على نيل حريتهم.
سادساً، أدّت هيمنة "المؤسسات الوطنية الخطأ" في ظل الحالة الاستعمارية إلى إنتاج بيئة أكثر سلطوية وأمنية على حساب الحقوق والحريات. فعمليات "إصلاح القطاع الأمني" التي تم تبنيها وتنفيذها برعاية دولية، والتي شكّلت العمود الفقري لمشروع بناء الدولة بعد عام 2007، أسفرت في الواقع عن "مأسسة السلطوية الفلسطينية" وتقنين القمع. أي أن السلطوية البنيوية أصبحت جزءاً من النظام السياسي الفلسطيني، حيث امتد نفوذ الأجهزة الأمنية إلى الدوائر السياسية، ما زاد من طابعها غير الديمقراطي. وبالتالي، صعود الحوكمة السلطوية، وغياب المشاركة الديمقراطية، و"النجاح الظاهري" الذي تحتفل به النخبة "المحلية - العالمية" لإصلاح القطاع الأمني الفلسطيني، جميعها ساهمت في إنكار حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك أمنهم الإنساني وحقهم في السيادة.
لا يمكن لإسرائيل، بمحض إرادتها، بوصفها قوة استعمارية ومحتلة أن تسمح بتعزيز سيادة الفلسطينيين أو اعتمادهم على أنفسهم
سابعاً، من أهم نتائج هذا المشروع الأمني كان تقويض مقاومة الاحتلال وتعطيل السياسة الفلسطينية ذاتها، فقد جرى تجريم المقاومة، بما فيها الشعبية والسلمية، وتفكيك بنيتها التحتية، عبر حملات أمنية مكثفة في مناطق توصف "معاقل للمقاومة". وبينما كان الفلسطينيون في الضفة الغربية يسعون إلى حماية أنفسهم من الاحتلال، وجدوا أنفسهم أمام نظام يجرّم حتى مجرد مقاومة هذا الاحتلال. هذا النهج الأمني، المغذّى من إطار أوسلو، يثبت أن القيام بإصلاح أمني لضمان "الاستقرار" في ظل واقع استعماري ومن دون معالجة اختلال ميزان القوى، لا يؤدّي إلا إلى نتيجتين: تعزيز التعاون مع القوة المحتلة وبالتالي توفير حماية أكبر للمحتل، وانتهاك حقوق الفلسطينيين من قبل سلطتهم الوطنية نفسها وأجهزتها الأمنية.
ثامناً وأخيراً، أدّت كل العناصر المذكورة أعلاه إلى تشويه عميق لمعنى "السلام" نفسه، فقد أصبح استخدام هذا المصطلح في السياق الفلسطيني- الإسرائيلي مضللاً، ويخفي واقع غياب السلام، فأصبح "السلام" مرادفاً لاستمرار الوضع القائم، للمساومات، وللاهتمامات الأمنية، ولكن من دون أن يتضمن المساءلة أو العدالة أو المساواة. ستكون استعادة المعنى الحقيقي للسلام في هذا السياق الاستعماري مهمّة صعبة بقدر صعوبة تحقيق هذا السلام نفسه.
معالجة التحولات البنيوية لاتفاقات أوسلو وتصحيح أوجه القصور الناجمة عنها شرطان أساسيان لضمان مستقبل فلسطيني مزدهر، فأمام الفلسطينيين مهام جسيمة لإعادة تصوّر مستقبلهم على أسس العدالة والحرية. إن التصدّي لهذه التحولات وأوجه القصور البنيوية يتطلب تبنّي نموذج جديد قائم على "المساءلة والشعب أولاً"، وهو ما يفرض على الفلسطينيين إعادة بناء نظامهم السياسي والحُكمي، وإعادة بناء قيادتهم الوطنية الديمقراطية والشرعية والشاملة والفعّالة، وأخيراً إعادة تعريف مفهوم السلام، بحيث يستعيد معناه الحقيقي القائم على المساءلة والعدالة الدائمة والمساواة.
