ARTICLE AD BOX
وُصِفَت بأنّها سعفة ذهبية "من أجل الحرية في إيران". إنّها كذلك. لذا، كان يمكن أنْ تُمنح في مهرجان سينمائي لحقوق الإنسان مثلاً، أو مهرجان للكرامة أو للمقاومة، أكثر من أن تُمنح في أهمّ مهرجان سينمائي، يهتم بالأكثر تعبيراً عن الإبداع في الفن السابع.
هذا لا يعني أنّ الإيراني جعفر بناهي الفائز بتلك السعفة عن "حادث بسيط" (الدورة الـ78، 13 ـ 24 مايو/أيار 2025)، غير مُبدع. أو أنّ فيلمه هذا ليس جيداً. بناهي سينمائي خلّاق بأسلوبه الإخراجي ونصوصه. ينطبق عليه القول إنّ القيود حليف أكبر للفنان. لكنْ، في فيلمه الأخير، طغى الجانب السياسي على الفني. هذا يحصل، في مهرجان "كانّ" أو في غيره من المهرجانات الكبرى: أنْ يفوز فيلم أو مخرج لأسباب غير فنية خالصة.
كلّ مشاركة لبناهي في أكبر مهرجانات العالم تثير انتباهاً خاصاً، ليس فقط لقيمة أفلامه، بل لما له علاقة بالسياسة. هو يدرك جيداً أهميتها. بات معروفاً. لكنْ، لا بدّ من تذكير بأنّه "مشاغب" سياسي، دأب على انتقاد نظام بلده. هذا يحظى بإعجاب الغرب.
تزايد الاهتمام به منذ الحكم عليه في بلده، بسبب مشاركته في تجمّعات ضد النظام، وتصويره سرّاً فيلماً عن التظاهرات المعترضة على إعادة انتخاب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، عام 2009. الحكم عليه؟ السجن ست سنوات (نفّذ منه 86 يوماً، والباقي إقامة جبرية لم يتقيّد بها، وتُرك حرّاً في تنقّلاته الداخلية). كما مُنع من مغادرة إيران، ومن العمل 20 عاماً. سُجن ثانية نحو سبعة أشهر، بين عامي 2022 و2023، ثم أُطلق سراحه بعد تنفيذه إضراباً عن الطعام. لكنّه لم يتوقّف، رغم المنع والحظر، عن صنع الأفلام التي تُندّد بوضعه الشخصي، وبوضع الشعب الإيراني في مواجهة القيود التي فرضها النظام الإسلامي، ودائماً "بالسرّ"، كما يُروَّج. تُرسل تلك الأفلام إلى مهرجانات برلين و"كانّ" وفينيسيا، وتنال جوائز أساسية، ويُترك في احتفالات التتويج مقعدٌ فارغ له بسبب منعه من السفر، ما يُثير تعاطفاً دولياً.
إذا كانت إيران بلداً أمنياً يقمع الناس، ولا تفوت مخابراته شاردة أو واردة، يُمكن التساؤل عن كيفية تَمكُّن مخرج، الأنظار مُسلّطة عليه، من تصوير خمسة أفلام سرّياً. التساؤل الأمثل: لا يُمكنه التصوير سرّاً، لكنْ ربما تَغضّ السلطات النظر عنه لأسباب مُعقّدة لا مجال لسردها هنا، مع الإشارة إلى وجود تيارات سياسية في النظام نفسه، لها مواقف متباينة ومتناقضة من السينما، ومن تمثيل إيران في الخارج.
لم يستطع جعفر بناهي مغادرة إيران إلا عام 2023. لكنّه كان يُصوّر أفلامه مُتنقّلاً بين طهران ومدن أخرى. هذا يدلّ على الحرية النسبيّة لتحرّكاته في بلده، قياساً بما يُشاع. أساساً، لا يحقّ منع أحد من الحركة والعمل، فهذان حقّان أساسيان من حقوق الإنسان. لكنْ، يمكن القول إنّ المبالغات ربما تُنتج ردّ فعل عكسي، والنظرة إلى العمل السينمائي بعين سياسية تسيء إليه، وإلى صاحبه، في المدى الطويل.
إعلان خبر مشاركة "حادث بسيط" في الدورة الـ78 لمهرجان "كانّ" أثار تساؤلاً عن قدوم بناهي إلى تلك المدينة، بعد إرساله "سرّاً" فيلمه المُصوّر "سرّاً": هل سيأتي؟ أم سيُترك مقعده فارغاً؟ بناهي في فرنسا قبل وقت قليل على بدء الدورة الأخيرة، لإجراء عمليات ما بعد الإنتاج، وبإمكانه البقاء إلى أنْ يحين موعد الدورة. لكنّه فضّل العودة إلى طهران. هكذا توفّرت للسلطة فرصة لتمنعه من السفر، وحضور العرض، لكنّها لم تفعل، فكانت المفاجأة. للإيرانيين قدرة دائمة على المفاجأة.
حضر بناهي، ونال السعفة، وألقى خطاباً طويلاً، مُطالباً فيه جميع الإيرانيين بـ"أنْ يضعوا كلّ المشاكل والاختلافات جانباً"، فالأهم الآن الوطن والحرية: "لنَصِلْ معاً إلى تلك اللحظة، التي لن يجرؤ فيها أحدٌ على إملاء ما نرتديه، أو ما نقوله، أو ما لا نفعله".
أثار فوز الفيلم ردود أفعال مبتهجة في العالم. كان مناسبة لتدخّل سياسيين فرنسيين، كوزير الخارجية جان ـ نويل بارو، الذي كتب في منصة "إكس": "في عمل من أعمال المقاومة ضد قمع النظام الإيراني، فاز جعفر بناهي بالسعفة الذهبية، (وهذا) يبعث الأمل في جميع المناضلين من أجل الحرية في كل مكان". الخارجية الإيرانية احتجّت، واستدعت القائم بأعمال السفارة الفرنسية في طهران، وندّدت بهذه التصريحات، واصفةً إياها بأنها "تدخّل سافر في الشؤون الداخلية الإيرانية"، فضلاً عن اتهامها باريس بـ "استغلال فرصة استضافة حدث سينمائي لتحقيق أهداف سياسية" (العربي الجديد، 25 مايو/أيار 2025).
ابتهج إيرانيون معارضون بالفوز، وإنْ لم يُشاهدوا أي فيلم لبناهي، أو كانوا من هؤلاء الذي لا يميلون إلى سينماه، كما يُقال في الداخل. هنّأه سينمائيون ينتقدون النظام، كأصغر فرهادي، و"دار السينما" (هيئة مستقلّة للسينمائيين الإيرانيين)، التي رأت في بيان لها أنّ الفوز "إشارة إلى حيوية السينما الإيرانية، ومساهمة بناهي في المشهد السينمائي العالمي"، واصفة الحدث بـ"التاريخي"، وبأنّه مبعث افتخار للسينما الإيرانية. كذلك هلّلت صحفٌ، مثل "شرق"، للخبر، لكنْ من دون تفاصيل.
صحف إيرانية عدة اتفقت على نعت الجائزة بالسياسية. تساءلت "همشهري" (جريدة إلكترونية معتدلة، تابعة لبلدية طهران)، في 26/ 5/ 2025، إنْ كان منح السعفة للفيلم، أمْ لمواقف سياسية، مستندة إلى مقالة "دفاتر السينما" الفرنسية، التي لم تعطِ علامة عالية له، خلافاً لصحف بريطانية "تُفضّل المضمون على الشكل السينمائي، وتهمل الجانب الفني".
كما اتّهمت النقاد الغربيين بأنهم يتعاملون مع السينما الإيرانية بمعايير مزدوجة، إذْ يُعطون الأولوية للموضوع والقصة، على حساب البنية والشكل. وبأنّ هذا النهج تجاه الأفلام الإيرانية منح أفلاماً تُعتبر مثيرة للجدل، ولم تُتح لها فرصة الإنتاج إلا خارج أطر صناعة الأفلام الرسمية، امتيازاً بنظر الغرب.
تساءلت الصحف تلك عن مدى صحة هذا الحكم على الأفلام، ومدى الثقة بجوائز المهرجانات السينمائية، والمراجعات الإيجابية، وإلى أي مدى يُمثّل فيلم بناهي انعكاساً لواقع المجتمع الإيراني، وإنْ لم تكن الصورة التي يُقدّمها عن إيران مجرّد انعكاس للأفكار والآراء الغربية عنها. انتقدت صحف عدّة وسائل الإعلام الغربية، التي لا تتسامح مع الروايات المُضادة، معتبرةً أنّ مهرجان "كانّ" ليس منفصلاً عن السياسات الغربية، مستدركة أنّ هذا لا يعني أنّ المهرجان يفتقر إلى الاستقلالية، أو يتبع بالضرورة خطاً سياسياً مُحدّداً في اتّخاذ قراراته، ومنح جوائزه، بل في أنّه "يتنفّس الأجواء الثقافية نفسها التي لم تُظهر أيّ ردّ فعل قوي تقريباً تجاه مقتل مئات الآلاف في غزة، العام الماضي".
انتهت صحفٌ مختلفة إلى القول إنّ الصورة التي يرغب فيها الغرب عن الشرق الأوسط "غريبة"، ونابعة من الحركة الإعلامية العامة، والمعايير الفنية لمنح الجوائز لأفلام هذه المنطقة التي لا تُثير اهتمام المشاركين في المهرجانات.
هاجمت صحيفة "طهران تايمز"، الناطقة بالإنكليزية (27/ 5) تسييس الفن والسينما، قائلةً إنّ مهرجان "كانّ" هذا العام "أثبت مُجدّداً التضحية بالقيمة الفنية لخدمة برامج سياسية"، وأنّ "حادث بسيط"، وفقاً لنقّاد مستقلّين، يفتقر إلى القيمة الفنية والجاذبية السينمائية، وأنّ الجائزة مُنحت له لـ"توجهه السياسي". ووفقاً لخبراء الثقافة الإيرانيين، ما منح بناهي الجائزة لم يكن تألقه السينمائي أو إبداعه الفني، بل التوافق السياسي للموضوع مع معاداة إيران. وأشارت إلى أنّها ليست المرة الأولى التي تُشيد فيها المهرجانات الغربية بأفلامٍ ذات دوافع سياسية ضد الجمهورية الإسلامية؛ وأنّ هذه الأفلام تفتقر إلى القيم السينمائية والفنية، وأنّها مجرّد تعليقات سياسية صريحة ومُكرّرة، وتميل إلى تقديم صورة مُشوّهة وقاتمة وغير مكتملة عن الحياة الإيرانية.
وتساءلت "كيهان" (صحيفة متشددة): أهذه سينما، أم بيان سياسي؟ فالفيلم لم يكن محط الأنظار لجودته السينمائية، بل لاسم مخرجه، ومواقفه السياسية. وأشارت إلى مراجعة "دفاتر السينما" له. كما اتهمت المؤتمرات الصحافية للمهرجان، إذْ لم يكن فيها التركيز الرئيسي لبناهي على الفيلم، بل على السياسة وإيران. كأنّه بدلاً من حضور فعالية فنية، دُعي إلى اجتماع للمؤسّسات السياسية الغربية، ومن مناقشة السينما، راح يقرأ بيانات ويردّد شعارات. وكتبت أنّ بناهي ادّعى أنْ لا حرية في إيران، رغم أنّه صنع فيلمه فيها من دون الحصول على ترخيص. ربما كان الأفضل أنْ يشرح كيف أنّه وسط ما يُسمّى بالاختناق في البلد، صنع بحرية فيلماً، وشارك في مهرجان "كانّ" السينمائي. رأت الصحيفة أنّ هذا النهج يتبدّى بوضوح في تصريح تييري فريمو، المندوب العام للمهرجان، الذي صرّح سابقاً بالقول إنّ "كلّ أفلام جعفر بناهي ستُقبل في هذا المهرجان"، مُعتبرة أنّ في التصريح دليلاً على التحيّز وتفضيل الآراء السياسية على المعايير الفنية، أكثر منه على احترام الفنان. بحسب الصحيفة نفسها، هذه عبارة واضحة: لا يهمّ أي فيلم يُخرجه بناهي، فالمهمّ أنْ يكون بناهي.
