"جوغينغ" لحنان الحاج علي.. مساءلة مسرحية عن مصير المرأة في مجتمعاتنا

2 weeks ago 8
ARTICLE AD BOX

منذ عرضها لأول مرّة عام 2016، تحوّلت مسرحية "جوغينغ" (هرولة)، للفنانة اللبنانية حنان الحاج علي، إلى علامة فارقة في المسرح العربي المعاصر. عاد العرض، مؤخّراً، إلى قلب المشهد المسرحي بعد تقديمه في مسرح "دوار الشمس" ببيروت، كما عُرض قبل ذلك، نهاية الشهر الماضي، في "الجامعة اللبنانية الدولية" بصيدا، وتعرّضت صاحبته إلى حملة تشويه وتحريض، حيث اتّهمها المحرّضون بأنها "تمسّ بالمقدّسات" وتُضمِّن عملها "إيحاءات غير أخلاقية".

يدور العرض حول امرأة في الخمسين من عمرها تمارس رياضة الهرولة في شوارع بيروت، لكن هذا الفعل البسيط سرعان ما يتحول إلى بوابة تفتح على طبقات من الذاكرة الفردية والجماعية، حيث تختلط الأمومة بالقمع، والأنوثة بالغضب، والحركة بالاحتجاج، من خلال مزج سردها الشخصي بشخصيات أسطورية وتاريخية مثل ميديا وإيفون، نساء قتلن أطفالهنّ. تطرح حنان أسئلة حول مصير المرأة في المجتمعات الذكورية، حول الطاعة والذنب وكيف يتحول الجسد إلى ساحة صراع بين الحياة والموت.

كلّ حركة وكلّ تنهيدة تحمل معنى وترمز إلى مقاومة صامتة

اللافت في مونودراما "جوغينغ" هو الأداء الذي تقدمه حنان الحاج علي، والذي يستند إلى لياقة بدنية مذهلة. ولأكثر من ساعة ونصف كاملة، تهرول، تتحّرك، تسقط، وتنهض، دون أن تفقد توازنها أو توهجها. الجهد البدني هنا ليس مجهوداً استعراضياً، بل جزء جوهري من اللغة المسرحية. كل حركة وكل تنهيدة تحمل معنى، وترمز إلى مقاومة صامتة أو صرخة مكتومة. تتحدى الحاج علي بفنها الصورة النمطية للمرأة على المسرح، وتعلن أن العمر ليس عائقاً، بل رصيداً. فهي تمتلك جسدها بالكامل، وتوظفه وسيلةَ تعبير ومقاومة، تثبت بها أن المسرح يمكن أن يكون صادماً وعميقاً، دون مؤثرات خارجية أو بهرجة تقنية.

ما يميز "جوغينغ"، أيضاً، هي العلاقة المباشرة التي تنسجها صاحبته مع الجمهور. فهي تكسر الجدار الرابع وتفتح حواراً حيّاً مع الحاضرين. تتحدّث إليهم، تطرح عليهم الأسئلة، تحمّلهم جزءاً من التوتر، وتجعلهم يعيدون النظر في مفاهيم راسخة حول الأمومة، والعار، والجسد، والانتماء. هذا التفاعل لا يخلق فقط حالة مسرحية فريدة، بل يجعل كل عرض تجربة شخصية ومتفردة، تختلف باختلاف تجاوب الجمهور وانفعالاته. وهكذا، يصبح المشاهد شريكاً في الرحلة، لا مجرد متلقٍ.

في كثير من الأحيان، لا يأتي التحدي الأكبر من الرقابة الرسمية فحسب، بل من جمهورٍ لا يتقبل بسهولة مواجهة ذاته. ففي العالم العربي، ما زال المسرح محاصراً بثقافة تُفضّل التسلية على المواجهة، وتخشى من الأصوات التي تجرؤ على كسر الصمت. حين تصعد حنان إلى الخشبة، لا تقدّم عرضاً مريحاً، بل تمسك بالجمهور من كتفيه وتهزّه بلطفٍ مؤلم: "انظر إلى نفسك". تلاطفه وتداعبه وتزعجه بصوتها الذي يصرخ بفجاجة وبصراحة بوجه الخنوع والاستسلام.

هذا النوع من المسرح لا يسعى لنيل التصفيق، بل لإحداث شرخ في المفاهيم الجاهزة. لكن ذلك يضعه أيضاً تحت ضغط مضاعف: كيف تُخاطب جمهوراً غير مستعد للسؤال؟ كيف تزرع شتلة فكرية في أرضٍ مجروحة بالرقابة والخوف والسخرية؟ حنان الحاج علي لا تبحث عن الإجابات السهلة، بل تقف في قلب هذا التوتر، مؤمنةً أنّ الفن الحقيقي يولد هناك، عند الحافة، حين يصبح المسرح مرآةً لا ترحم.

بالنسبة لحنان الحاج علي، المسرح ليس مجرد فنّ، بل مساحة حرّة للبوح والمساءلة. في زمن تتقلص فيه حرية التعبير، وتُقمع فيه أصوات النساء، تأتي "جوغينغ" لتعلن أن الجسد صوت، وأن المسرح يمكن أن يخلخل البنى السلطوية دون أن يرفع شعاراً سياسياً مباشراً. تقول الحاج علي: "لستُ ممثلة تسعى لإرضاء الجمهور، بل لتقويض السكون، لإحداث شرخٍ في جدار الصمت". وهذا بالضبط ما تنجح فيه. إنها تزرع القلق في قلب الراحة، وتوقظ الأسئلة في وجه الإجابات السطحية.

"جوغينغ" ليست مجرد مسرحية، بل بيان شخصي وجماعي عن الحرية، عن الجسد، عن الوطن، وعن المرأة التي لم تعد تكتفي بالمشي إلى جانب العالم، بل تركض كي تسبقه أو تصرخ في وجهه. وحنان الحاج علي، بهذا الأداء واللياقة الجسدية والفكرية، تحجز لنفسها مكاناً في طليعة المسرحيين العرب، وفي ذاكرة جمهور لن ينسى امرأة هرولت كي لا تصمت.

Read Entire Article