حرية التعبير في زمن الرقابة الرقمية

2 weeks ago 4
ARTICLE AD BOX

في عصرٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتعمّق فيه سطوة الشركات الرقمية العملاقة، لم تعد حرية التعبير مجرّد حقٍّ قانوني محمي في الدساتير، بل أصبحت ميدان صراع يومي بين الإنسان والخوارزميات، بين الرأي والنظام، وبين الصوت الفردي ومصفوفات "السياسات المجتمعية" التي تُصاغ بعيدًا عن السياق الثقافي والسياسي لبلداننا.

في منطقتنا العربية، يتعقّد المشهد أكثر. فبين رقابة السلطات، وخوارزميات المنصّات الغربية التي لا تفهم تعقيدات لغتنا أو سياقاتنا، يجد المستخدم العربي نفسه محاصرًا في هامش ضيّق من التعبير، قد يُعاقَب فيه على السخرية، أو يُسجَن بسبب منشور، أو تُعلّق حساباته لمجرّد أنه استخدم كلمات تُصنَّف "ضدّ المعايير" رغم أنها تصرخ بالحق.

الخوارزميات لا تفهم الحرية

حين تُحظر منشورات تتحدّث عن "جرائم حرب" أو "فساد سياسي" بحجّة "خرق معايير المجتمع"، يصبح من المشروع أن نسأل: معايير أيّ مجتمع؟ ومن يضعها؟ في معظم المنصّات الكبرى مثل ميتا ويوتيوب، يتم تحديد هذه السياسات بشكل مركزي من وادي السيليكون، حيث تُبنى الخوارزميات بلغات وأطر ثقافية مغايرة تمامًا لبيئتنا.

حُذفت منشورات فلسطينية توثّق انتهاكات ميدانية تحت ذريعة "العنف الصريح"، فيما بقيت منشورات تحريضية بلغات أخرى

وغالبًا ما تُطبّق تلك السياسات بشكل آلي، عبر خوارزميات تفتقر إلى الحسّ البشري والفهم العميق للسياق السياسي والاجتماعي. حُذفت منشورات فلسطينية توثّق انتهاكات ميدانية تحت ذريعة "العنف الصريح"، فيما بقيت منشورات تحريضية بلغات أخرى. يُصنَّف مصطلح "شهيد" كمصطلح محفّز على العنف، بينما لا تُحظر مصطلحات عنصرية أو استعمارية لأنّ الخوارزمية ببساطة لا تفهم السياق.

صراع مزدوج: السلطات والمنصات

المواطن العربي اليوم عالق بين فكي كماشة؛ فـمن جهةٍ، يواجه رقابة الدولة التي قد تجرّمه بموجب قوانين فضفاضة مثل "الإساءة للدين" أو "تهديد السلم الأهلي"، ومن جهة أخرى، تفرض المنصّات قواعد غير مرئية تعاقبه بصمت. الحسابات تُعلّق، المنشورات تُحذَف، والوصول يُقيَّد، وكل ذلك من دون شفافية أو قدرة حقيقية على الاعتراض.

وتزداد الأزمة حين تتحوّل هذه المنصّات إلى أدوات قمع غير مباشرة. فبعض السلطات تستغل وجود "بلاغات منسقة" لإسكات الناشطين، بحيث يبدو الأمر وكأنه مجرّد إجراء تقني. والنتيجة أنّ آلاف المستخدمين يخسرون إمكانية الوصول إلى جمهورهم من دون أيّ إنذار أو تفسير.

الرقابة الذاتية... الخوف الجديد

الأخطر من كلّ ذلك أنّ المستخدم بات يخاف من التعبير حتى قبل أن يكتب. الخوف من حذف المنشور، أو من اعتقال محتمل، أو حتى من تعرّضه لهجمة رقمية، يجعل الرقابة الذاتية تتغلغل في وعينا. نختار كلماتنا بدقة، نحذف تغريدة قبل نشرها، أو نكتفي بالصمت في قضايا تحتاج إلى صوت.

الحسابات تُعلّق، المنشورات تُحذَف، والوصول يُقيَّد، وكل ذلك من دون شفافية أو قدرة حقيقية على الاعتراض

هذا الخوف لا يأتي فقط من السلطة، بل من الشعور بالعجز أمام قرارات المنصّات. فحتى في حال تقديم استئناف، غالبًا ما يُقابل الردّ برسالة آلية، من دون مراجعة بشرية، ومن دون تفسير مقنع.

التقنية من أجل السلام نموذجًا: بين التوعية والقيود

في العراق، عايشت منظمة "التقنية من أجل السلام" هذه التحديات بشكل مباشر. منذ انطلاقها عام 2016، سعت المنصة إلى مكافحة الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية عبر أدوات رقمية، وتقديم محتوى توعوي بأكثر من لغة. ورغم اعتراف المنصّات الكبرى بها كشريك موثوق، تعرّضت الحسابات التابعة لها في أكثر من مناسبة للتقييد المؤقت، نتيجة بلاغات منظّمة أو تفسيرات خاطئة للمحتوى العربي.

العمل في بيئة معقّدة مثل العراق، حيث تتداخل السياسة بالدين والعشيرة، يجعل من حرية التعبير مسؤولية دقيقة. ومع ذلك، استمرت "التقنية من أجل السلام" في تدريب الشباب على الأمن الرقمي، وتقديم خدمة تحقّق جماهيري، والدفاع عن حرية التعبير ضمن فضاء رقمي أكثر عدالة. لكن الصراع لا يزال قائمًا، وهو يتجاوز حدود العراق ليعكس معاناة آلاف الأصوات المستقلة في العالم العربي.

نحو عدالة رقمية شاملة

ما نحتاجه اليوم ليس فقط الحقّ في التعبير، بل ضمانات حقيقية تحمي هذا الحق داخل المجال الرقمي. يجب أن تُلزم المنصّات الكبرى بتوفير آليات مراجعة شفافة وعادلة، تشمل فرقًا متعدّدة اللغات والثقافات تُدرك حساسية القضايا وسياقاتها.

الخوف من حذف المنشور، أو من اعتقال محتمل، أو حتى من تعرّضه لهجمة رقمية، يجعل الرقابة الذاتية تتغلغل في وعينا

كما ينبغي تعزيز مبادرات رقابة مستقلة تتابع السياسات الرقمية وتوثّق الانتهاكات، وتدافع عن المستخدمين الذين تمّ إسكاتهم من دون وجه حق. المطلوب هو تشبيك الجهود بين المنظمات المدنية، وخبراء التقنية، وصانعي السياسات لضمان عدم استبدال سلطة الدولة بسُلطة خوارزمية أكثر جمودًا.

التكنولوجيا ليست محايدة

غالبًا ما يُروَّج لفكرة أنّ "الخوارزميات محايدة"، لكنها ليست كذلك. هذه الأنظمة تُصمَّم بأيدي بشر، وتحمل تحيّزاتهم، وتُطوَّر وفق أولويات تجارية، لا حقوقية. ولذلك، فإنّ الدفاع عن حرية التعبير في العصر الرقمي يتطلّب مساءلة تقنية وسياسية متواصلة.

الصوت حق... لا منحة

في النهاية، يجب أن نُذكّر أنفسنا بأنّ حرية التعبير ليست منحة من الدولة أو المنصّة، بل حقٌ أصيل لا يجوز التنازل عنه. ومن لا يملك صوته، لا يملك مستقبله.

إنّ معركتنا اليوم ليست فقط في الشارع أو البرلمان، بل في الفضاء الرقمي، حيث تُصاغ السياسات، وتُشكَّل العقول، ويُعاد تعريف معنى الحرية. ولهذا، فإنّ العدالة الرقمية ليست مطلبًا تقنيًا فحسب، بل هي امتداد طبيعي لمعركة الإنسان من أجل الكرامة، والحقّ، والوجود.

Read Entire Article