ARTICLE AD BOX
وفق منهج "العلاج بالمعنى" للطبيب النفسي، النمساوي فيكتور فرانكل، بين الصدمة والاستجابة "مساحة تكمن فيها حرّيتنا"، أي أن ما يحدّد مصيرنا ليس الصدمة نفسها، وإنما ردّة فعلنا تجاهها، وفيها تكمن الحرّية التي لا يمكن لأحد أن يسلبنا إياها. لا تكتمل هذه المساحة، بحسب الفيلسوف الهندي أمارتيا سن، من دون وعي أخلاقي، فالانتقام كثيراً ما يخلق مساواةً في الوحشية لا في العدالة، فالعدالة إنصاف، لا يمكن اختزالها في العقاب الانتقامي، وإلا فقدت جوهرها الأخلاقي. لكن السوريين، الذين ودّعوا، منذ شهور قليلة، عقوداً من القتل والقمع والتهجير، يبدو أنهم لا يجدون هذه المساحة بسهولة. منهم من استسلم لمشاعر الغضب بدل البكاء، وللرغبة في الانتقام استعجالاً للعدالة. فبعد سقوط نظام بشّار الأسد، الذي حفر طوال 14 عاماً قبور معارضيه، وجد سوريون أنفسهم في لحظة يتصارع فيها الألم مع القيم، والرغبة في الانتقام مع الحلم ببداية جديدة. وسط هذا المشهد، طفت في السطح حوادث نبش قبور رموز النظام السابق وتحطيم شواهدها، بل حتى (وفق تقارير) حرق جثثهم وذرّ رفاتهم. تثير أمثال هذه الحوادث أسئلةً أخلاقيةً: هل يجوز نبش قبر، حتى لو كان صاحبه جلّاداً؟ هل نبني عدالةً، أم نعيد تدوير الإهانة؟ وهل تتحقّق كرامة الضحية بتدنيس قبر جلّاده؟
يعتبر علم النفس الاجتماعي أن نبش القبور مؤشّر إلى فشل جماعي في التعبير عن الحزن. هو انفعال بلا أفق، ولحظة نشوة قد تتحوّل لعنةً أخلاقيةً دائمةً. من يريد بناء الحاضر لا يطارد جثث الماضي، بل يواجهها بشجاعة القانون، فبدلاً من إخراج الموتى من قبورهم، يمكن محاكمة أفعالهم. ففي جنوب أفريقيا، رفضت لجنة الحقيقة والمصالحة نبش قبور رموز الفصل العنصري، ورد ديزموند توتو (كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق والحائز على جائزة نوبل للسلام) على المطالبين بذلك، فقال: "ابنوا متاحف تفضح جرائمهم من دون أن تُلوّثوا أيديكم". اختارت كيب تاون الاعتراف العلني بالجرائم، من دون إذلال الأموات. أمّا يورغن هابرماس فينصح من أجل "محو آثار الجلّادين" أن نبدأ بـ"محو ثقافة التمجيد، لا بانتهاك الجثث." ما تحتاجه سورية اليوم ليس جَلد العظام، بل كشف الحقيقة. تبدأ العدالة الحقيقية عندما نُدين الأفعال، لا الأجساد. عندما نخلّد الماضي في متاحف الذاكرة، لا في صور الجثث المُنتهكَة.
ليس هناك ما يبرّر نبش القبور، فهذا الفعل غير المشروع أخلاقياً وقانونياً لا يصنع دولةَ قانون، ولا يمكن للانتقام، حتى لو كان موجّهاً إلى جلّاد، أن يكون جزءاً من مشروع مصالحة وطنية. ومع تلكّؤ السلطات الجديدة في سورية في المضي نحو العدالة الانتقالية، قد نشهد نبش مزيدٍ من القبور، تزامناً مع اكتشاف مزيد من مقابرَ جماعيةٍ حفرها النظام القديم ورجاله. مع ذلك، فإن نبش القبور ليس مجرّد خطيئة ضدّ الموتى، بل هو خطر على الأحياء، يشوّه الضحية، ويجرّها إلى حلقة العنف الأبدي، وقد رصد تقرير "العدالة الانتقالية في المجتمعات الإسلامية" (معهد السلام الأميركي، 2024) تصاعد العنف الطائفي بنسبة 200% في دول نبشت فيها قبور رموز أنظمة سابقة (العراق، ليبيا)، ومن يبرّر هذه الممارسات، بحجّة أن الضحايا يحقّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم، فإنه ينسى أن ما يميّز الضحية من جلّادها هو الأخلاق. فالانتقام ليس عدالةً، بل مرآة للظلم الأول. فحين يُصبح الميت وسيلةً لتفريغ الغضب، نكون قد حوّلنا طاقة الألم أداةَ تخريب. قد يختار السوري الغضب لأنه لم يمنح نفسه حقّ البكاء، لكنّه غضب بلا مخرج، ولا يحمل مشروعاً سياسياً ولا أخلاقياً، بل يتحوّل استنزافاً داخلياً طويلاً، فلا يبني الوطن غضبٌ ينبش قبراً، بل يؤسّس جولةً جديدة من الكراهية والعنف، هذه المرّة ضدّ قيم العدالة نفسها.
قد يعكس القبر أخلاق الحيّ أكثر ممّا يحفظ جسد الميت، فحين ينزل الضحية إلى مستوى جلّاده، يفقد قضيته السياسية الأخلاقية. نبش القبور ليس عدالةً مؤجّلةً، بل هو فتنة مؤجّلة، وحين تُمسك بمعول الغضب، تُفلتُ من يدكَ مفاتيح العدالة. فلنغلق القبور بإحكام، لا لأن موتاها لا يستحقّون المحاسبة، بل لأننا (نحن) من يستحقّ الحياة.
