حكاية الجارية: الكابوس في موسمه الأخير

1 day ago 5
ARTICLE AD BOX

في صيف عام 2018، اتخذت ردود الفعل العالمية ضد خطر الإجهاض وحقوق النساء الأخرى شكلاً لافتاً. خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي حينها، مايك بنس، إلى فيلادلفيا، وكذلك في لندن خلال زيارة رسمية للرئيس دونالد ترامب؛ ارتدت المتظاهرات في أيرلندا والأرجنتين وهولندا، والعديد من الأماكن البلدان، أردية قرمزية وقلنسوات بيضاء ناصعة، لا تسمح إلا بالنظر الثابت إلى الأسفل. لم تكن هناك حاجة إلى أصوات أو لافتات احتجاجية؛ كان موكباً صامتاً كافياً ودالاً.
هذا الزيّ الرسمي جاء من الرواية الكلاسيكية الديستوبية "حكاية الجارية" (The Handmaid's Tale)، للكاتبة الكندية مارغريت آتوود (1939). نُشرت الرواية عام 1985، وحُوِّلت لاحقاً، لما لها من تأثير بصري كبير، إلى مسلسل تلفزيوني عُرض ابتداءً من إبريل/ نيسان 2017، وانتهى موسمه السادس والأخير الأسبوع الماضي، بعدما تجاوز بكثير رواية آتوود الأصلية.
في الرواية، تتصوّر آتوود الولايات المتحدة بعد حربٍ أهلية، إذ تُستبدل بجمهورية تُسمّى جلعاد، وهو نظام ثيوقراطي بحت يعيش وفقاً لأكثر تفسيرات الكتاب المقدّس تقليدية، بما في ذلك عقوبات توراتية قاسية وحرمان النساء من حقوقهن. في ظلّ هذا الوضع الكابوسي، الحرية مضمونة فقط للنساء اللواتي يتمكنّ من عبور الحدود الشمالية، إلى كندا. ترتدي مَن يُسمَّين بـ"الجاريات" الزيّ الرسمي، وهنّ في المستقبل القريب، الذي يكاد يكون عقيماً، النساء الوحيدات القادرات على الإنجاب. تعيش الخادمات إماءً في منازل أصحاب السلطة (القادة وزوجاتهم العاقر)، فيُتوقَّع منهنّ الطاعة والولادة، باتباع طقوس تُسمّى "الاحتفال"، التي تُعادل الاغتصاب. تُروى رواية آتوود من منظور خادمة شابّة تُدعى أوفريد (أي "تخصّ فريد")، سُمّيت تيمّناً بـ"مالكها".
سبق أن حُوِّلت "حكاية الجارية" إلى مسرحيات وأوبرا وأعمال إذاعية، إضافةً إلى فيلم من إخراج الألماني فولكر شلوندورف عام 1990. لكن مسلسل عام 2017 (بعد 32 عاماً من نشر الرواية) هو ما أعاد جلعاد آتوود إلى مركز الثقافة والنقاش. حصد ذلك الموسم الأول كل الجوائز الممكنة، وحاز لقب مسلسل العام في عديد من المواقع والمجلات. لا شك في أن هذه الحفاوة ارتبطت بجودة العمل الدرامي الذي كتبه للتلفزيون بروس ميلر، وترجمته البصرية لحالة القمع في مجتمعٍ مستقبلي يشابه جوانب معيّنة من عالمنا، والأداء المحوري المذهل لإليزابيث موس في دور أوفريد، التي ستعود أيضاً إلى اسمها القديم السرّي، جون. ولكن كان من السهل جداً على المتفرّج التعاطف مع عالم مستقبلي يكره النساء، إذ بدا أن قصص السنة الأولى لترامب رئيساً وخلافة "داعش" و"المجاهدين الأجانب" تهيمن على وسائل الإعلام.
عندما نشرت آتوود روايتها منتصف الثمانينيات كانت مدفوعة بمخاوف أخرى سادت جغرافيات قلّصت حقوق المرأة في الثمانينيات، سواء كان حظر الإجهاض في رومانيا تشاوشيسكو، أو اتحاد السياسة والدين بين القطاعات الأكثر محافظة في الولايات المتحدة الأميركية (الذي جلب رونالد ريغان إلى السلطة)، أو خضوع النساء لآبائهن وأزواجهن في إسبانيا، حيث كنّ بحاجة إلى إذن من الذكور لأي مسألة تُنجز خارج المنزل حتى عام 1975.
التزم "حكاية الجارية" في موسميه الأوّليْن بالنصّ الأصلي، لكنه حاد عنه لفترة طويلة، وكثيراً ما أُجّلت الخاتمة المرجوة للمشاهدين بفعل حيلٍ وألعاب سردية حافظت على التشويق بنهاية كل حلقة. الآن، يُمكن القول إن المسلسل قد وصل إلى خاتمته المستحقة (رغم أنباء تفيد بالتحضير لمسلسلٍ فرعي مقتبس عنه بعنوان "الوصايا" (The Testaments)، مستوحى من رواية مارغريت آتوود التي تحمل الاسم نفسه). بعد ثماني سنوات من إطلاقه، أصبح "حكاية الجارية" بلا منازع معلماً تلفزيونياً بارزاً بموسمه الأخير الذي حاول إرضاء الجميع. يشهد الموسم السادس عودة موس بدور جون، البطلة التي تدفعها روحها وعزيمتها اللتان لا تُقهران إلى العودة إلى المعركة لإسقاط جلعاد، البلد الذي أسرها ولا يزال يأسر ابنتها الصغيرة. يسلّط هذا الفصل الأخير من رحلة جون الضوء على أهمية الأمل والشجاعة والتضامن والمقاومة في السعي إلى تحقيق العدالة والحرية.
حين عُرض المسلسل للمرة الأولى في 2017، بعد أشهر قليلة من تولي دونالد ترامب منصبه في فترته الرئاسية الأولى، لاحظ كثيرون أن بعض قصص المسلسل بدت متشابهة مع المناخ السياسي في الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب؛ وأكثر من ذلك الآن، بعد ثماني سنوات. تبدو جلعاد، المجتمع الشمولي، المحكوم بنظام أصولي ينظر إلى المرأة بوصفها شيئاً مملوكاً للدولة، ثمرة نهائية لأميركا ترامب إذا ما أتيحت للرئيس البرتقالي الفرصة لفعل ما يحلم به.
في مقابلة صحافية، أعرب أحد مؤلفي المسلسل، إريك توخمان، عن قلقه إزاء الوضع الراهن في الولايات المتحدة، بقوله إن "حقوق المرأة في بلدنا أصبحت أقل مما كانت عليه عندما بدأنا الإنتاج في 2016"، مضيفاً أنه "لم يكن أيّاً منّا ليتوقّع مدى أهمية المسلسل وكيف سيستمر في عكس الأحداث الحقيقية. وُصف العمل بأنه قصة تحذيرية حول ما يمكن أن يحدث عندما تُساء استخدام السلطة وتُنتزع حقوق الناس وحرّياتهم... لكن هذا التحذير تجاهله، على ما يبدو، غالبية الناخبين". وأوضح المؤلف أنه في حين لم يُخطَّط منذ بداية المشروع "لإصدار بيانٍ سياسي أو كتابة المسلسل استجابةً للعناوين الرئيسية"، فحقيقة أن الصراعات في المسلسل تبدو أحياناً قريبة من الواقع تعود إلى "أننا نحاول الكتابة بصدق عن القوة والمرونة ومدى هشاشة ديمقراطيتنا وحرّيتنا".


والواقع أن تصوير المسلسل لكيفية تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة بهذه السرعة ذكي ومرعب في آن. فمن ناحية، يضرب وتراً حسّاساً بإظهاره سرعة تداعي كافّة القيم والمبادئ الديمقراطية في بلدٍ يجنح قادته نحو اليمين من أجل فرض رؤية ديكتاتورية تستبيح النساء ومن خلفهن سائر السكّان. ومن ناحية أخرى، تكسر خيالية السردية التلفزيونية صنماً أميركياً يقوم على فكرة أن الدولة، الناشئة على إبادات ومجازر بحق السكّان الأصليين قبل قرون والمهجّنة من خليط جنسيات وعرقيات وافدة ومستعمرة، هي قائدة العالم الحرّ وحارسة القيم التقدّمية، وبالتالي، وفق هذا التصوّر، يُعدّ تحوّلها إلى دولة ثيوقراطية كارثة إنسانية تؤذن بنهاية العالم.
صحيح أن الديمقراطيات تتراجع وتفشل طوال الوقت؛ إذ يعيش 70% من سكان العالم في ظلّ حكم استبدادي. في "حكاية الجارية"، تغدو الولايات المتحدة، كما نعرفها، مجرد تجربة لمرّة واحدة ومؤقتة وهشّة للغاية، مع الوضع في الاعتبار أننا نعيش منذ سنوات في عالم جلعاد. بصورة أو بأخرى، يغدو الاندهاش من استمرار "الديمقراطية الأميركية" كلّ هذا الوقت نافلاً.

Read Entire Article