ARTICLE AD BOX
أن يطلب أحدهم منك إزالة صورة على صفحتك في "فيسبوك"، قد تبدو حادثة صغيرة لا تستحق التوقف. لكن حين تكون الصورة لفائق المير، المعروف بـ "أبو علي"، وهو المناضل السوري المغيّب، وأحد رموز مقاومة الاستبداد، ويكون الطلب صادرًا عن شخص لا تعرفه، لكنه ينصّب نفسه وصيًا على الوطنية، فإنّ الأمر يتحوّل إلى ما هو أكثر من مجرّد موقف عابر.
ففي الوقت الذي اتُّهمت فيه بالمزاودة، فقط لأنني احتفظت بصورة "أبي علي" على صفحتي، ولأنني "لم أعد أستحق" هذا الشرف بحسب مزاعم أحدهم، تكشّف لي أنّ المشكلة ليست في الصورة، ولا في الشخص، بل في منطق جديد قديم يُعيد إنتاج آليات القمع، هذه المرة من "داخل" المعارضة ذاتها.
حين سألت الشخص الذي طالبني بحذف الصورة، بمشاركة الصديق عبدو قندلفت، عن السبب، أخبرني بأنه كان قد التقى أبا علي في الماضي وأشاد بي، لكنه، حسب تقديره، لو كان حيًّا اليوم واطّلع على موقفي "الذي يقف ضد مصالح الشعب السوري وثورته"، لتبرّأ مني.
منطق جديد قديم يعيد إنتاج آليات القمع، هذه المرة من "داخل" المعارضة ذاتها.
ولو أنّ هذه التهمة معزولة عن السياق، لما كلّفت نفسي عناء الكتابة. لكنّ الحقيقة أنّ ما جرى يعكس منطقًا مقلقًا بدأ يُهيمن تدريجيًا؛ ثقافة النظام السوري السابق تسرّبت إلى من كانوا معارضيه، وأصبحت تتجلّى في أشكال جديدة من التخوين ومصادرة الرأي. حيث إنّ النظام السابق روّج لربط الوطن بالقائد، وها نحن نرى اليوم من يربط الثورة أو "مشروع الدولة" بشخصيات جديدة، ويخوّن من يختلف معها. وهذا النمط من التفكير، الذي ينتج استبدادًا بأدوات محدثة، هو الخطر الحقيقي.
منذ أن بدأت أكتب ناقدًا ومعارضًا لما أراه انحرافات في المسار السياسي داخل النظام السوري الجديد، وأنه يعيد إنتاج الاستبداد بلبوس وهيئات جديدة، لاحظت تغيّرات مؤلمة. حواجز وجدران بدأت ترتفع بيني وبين أصدقاء ورفاق جمعتني بهم سنوات المعارضة لنظام الأسد. في تلك المرحلة، كانت مطالبنا واضحة؛ حرية الرأي، الديمقراطية، حقوق الإنسان... فما الذي تغيّر اليوم؟
في مكالمة هاتفية مع صديق أحترمه، قال لي من دون مواربة: "من يقف ضد أحمد الشرع، فهو يقف ضد بناء الدولة". أجبته ساخرًا: "أنا مع الدولة وضد الجولاني، فهل لو امتلكت السلطة ستضعني في السجن؟ وبأيّ تهمة ستعتقلني؟ وهن نفسية الأمة؟ أم نشر أخبار كاذبة؟".
ثمة نمط من التفكير، ينتج استبداداً بأدوات محدثة، وهذا هو الخطر الحقيقي
وهذا ليس المثال الوحيد. صديق آخر، يشغل موقعًا بارزًا (الرجل الثاني في حزب قومي عربي)، كتب لي تعليقًا تحت مقال لراتب شعبو كنت قد شاركته في صفحتي على "فيسبوك"، يقول فيه: "لقد أضعت البوصلة"، وينصحني بأسلوب أبوي ألّا أضلّ الطريق. أما صديق ثالث، فقد بات، على سبيل المثال، إن كتبت منشورًا صغيرًا أقول فيه إنّ "اللبن أبيض"، يستنفر كلّ أدواته الذهنية، وكأنّ مهمته هي إثبات العكس، وأنّ اللبن أسود، فقط لأنني قلته.
الأمر يتجاوز المزاح أو سوء التفاهم. رفيق سابق، يعتبر الشخص الثاني أو الثالث في حزب كان ماركسيًا، ثم أصبح ليبراليًا، ويبدو أنه يتجه اليوم لتغيير اسمه إلى "تيار بناء الدولة"، لم يتردّد في وضع علامة إعجاب على تعليق لأحد "النكِرات" يطالبني (أنا وغيري ممن ينتقدون الشرع) بالبقاء في المنافي، لأن "سورية ليست بحاجة إلينا". هذا ليس فقط مؤلمًا، بل يعكس انقلابًا حادًا في منظومة القيم لدى بعض رفاق الأمس، الذين تقاسمنا معهم، ليس فقط الخبز والملح، بل الاعتصامات في دمشق، وحلب، وحمص، والرقة، عندما كانت سورية "مملكة الصمت".
ليست المعارضة ترفاً سياسياً، بل صمّام أمان لأي نظام، حتى الديمقراطي
أقول لهؤلاء الرفاق والأصدقاء، مؤكّدًا بديهية لا جدال فيها، إذا لم تكن هناك معارضة حقيقية، يجب خلقها. ليست المعارضة ترفًا سياسيًا، بل صمّام أمان لأيّ نظام، حتى الديمقراطي. إنها من يحدّ من تغوّل السلطة، ومن يدفعها إلى تحسين الأداء، ومن يوفّر التوازن المطلوب في الحياة العامة. حتى الأنظمة السلطوية تلجأ أحيانًا إلى خلق معارضات شكلية، لإضفاء طابع ديمقراطي زائف على حكمها، أو لرصد نبض الشارع. فهل وصلنا إلى لحظة تفكّرون فيها بتأسيس معارضة "كيوت"، ديكورية، لا تُزعج "مشروع الدولة"، بل تباركه وتخدمه؟ إذا كان هذا هو الاتجاه، فلماذا كنتم تهاجمون شخصيات مثل قدري جميل، لؤي حسين، وآخرين؟ أليس ما تفعلونه اليوم شبيهًا بما كنتم تتهمونهم به بالأمس؟
لن أطيل، لكن يجب أن أؤكد المؤكّد؛ إن لم تكن هناك معارضة حقيقية، فمن الواجب خلقها من رحم المجتمع المدني، من النخب الفكرية، من الناس أنفسهم. المعارضة هي صمّام الأمان ضدّ الانحراف، والانزلاق نحو الاستبداد، حتى لو ارتدى هذا الاستبداد قناع "الثورة"، أو استخدم مفرداتها. نريد معارضة حقيقية، لا "كومبارس" سياسيا لتجميل مشهد مكرور.