ARTICLE AD BOX
بصراحة، تََخّنها كثيراً رئيس أورغواي الأسبق، خوسيه موخيكا، الراحل قبل أيام عن 89 عاماً، في زهده وتعفّفه المفرط وتقشّفه الفادح، وفي نبذه المال الذي كان يعدّه "من أشكال العبودية الحديثة"، وفي فائض المثالية الذي أقام عليه، وهو يرى أن السعادة الحقيقيّة في عدم امتلاك الأشياء، وفي حديثه إلى ضيفه إبّان كان رئيساً، ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس، عن عيشه متخفّفاً من الأمتعة، الأمر الذي لا يستطيعُه الملك، سيِّئُ الحظّ (بتعبيره)، لأنه ملك (!). صحّ عليه الوصف الذي اقترن به "أفقر رئيس في العالم"، غير أن النُّحاة العرب أفهمونا أن المفاضلات في اللغة لا تجوز إلّا بين المتشابهات، فلا نقولُ إن السكّر أحلى من الخلّ، فالأخير ليس فيه من الحلاوة شيءٌ حتى يفوقَه بها السكّر. ولمّا كان الرؤساء، في العموم وفي كل مكان، ليسوا فقراء، فإن خوسيه (أو خوزيه) موخيكا، لا يُجاز له القول إنه أكثرُهم فقراً. وإذا انضافت هذه الفرادة في شخص هذا الرجل إلى شمائل أخرى فيه، سنجدُنا أمام إنسانٍ من طينةٍ غير معهودةٍ ولا مألوفة، تصلُح لأبطال الحكايات التي تُمتع الصغار، وتأخذ مداركَهم إلى خيالٍ شاسع. كيف لا، وصاحبُنا هذا كان رئيساً منتخباً لبلدٍ كبير، لم يستطب أن يقيم في قصر الرئاسة، وآثر الإقامة في مزرعةٍ له قرب عاصمة بلاده، لكن مقتضيات حمايته أضافت إلى بيته هناك كاميراتٍ أمنية، ... ومسارات هروبٍ، على ما أفادت "أسوشييتد برس"، وهي تُخبرنا عن قرار الرئيس الحالي ياموندو أوسي، اليساري أيضاً، الذي انتُخب في نوفمبر/ تشرين الثاني، إقامته في منزلٍ له خارج العاصمة، لكن قصّة العزوف عن الحياة في القصر لا تبدو على الغرابة (أو الطرافة ربما) الماثلة في عدم امتلاك خوسيه أي حسابٍ مصرفي، وفي تبرّعه بـ90% من راتبه التقاعدي لجمعياتٍ خيرية.
أورغواي بعيدة عنّا، ليس من خبرةٍ لنا معها، بالكاد نعرف موقعها على الخريطة. نعتاد على اسمِها في بطولات كأس العالم، فكرة القدم فيها، كما في جوارها وحواليْها في دول قارّتها، أميركا اللاتينية، رياضة شغفٍ لا يوصَف، وقد قدّم للقراء في العالم الروائي الأورغواياني إدواردو غاليانو كتابه البديع "كرة القدم في الشمس والظل". لا نلتفتُ إلى انتخاباتٍ رئاسيةٍ تستجد دورياً في هذا البلد قليل السكّان، والغنيّ، وصاحب الاقتصاد القويّ نسبياً، والذي، من قبل ومن بعد، يأخذ بالديمقراطية، فيصِلُ اليساري العتيد خوسيه موخيكا إلى الرئاسة، وهو الذي انتسب في شبابه إلى الحركة الماركسية، المتطرّفة في واحدٍ من نعوتها، التوباماروس، التي كانت تسرق أموالاً من بنوكٍ وشركاتٍ لتوزّعها على الفقراء. حُبس في السبعينيات، وهرب مرّتَين من السجن الذي أمضى فيه 13 عاماً، قبل أن يخرج بعفوٍ رئاسيٍّ عامّ في 1985، ثم يصبح عضواً في البرلمان، قبل أن يخوض انتخاباتٍ رئاسية ويفوز، ثم يربك جمهوراً عريضاً، ومثقفين ناصروا تقدّميّته ويساريّته النبيلة، عندما يتبنّى خياراتٍ ليبرالية اجتماعية، مغاليةٍ في انفتاحيّتها ربما، عندما نجح في تشريع إباحة الإجهاض وزواج المثليين. ودلّ، في الأثناء، على أن بساطته، بل وتطرّفه فيها، تتوازى مع إدراكٍ عميقٍ لأسئلةٍ ملحّةٍ في شؤون وقضايا عويصة تخصّ الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وكذلك العلاقات مع الخارج، والتوازن مع المستجدّات والمتغيّرات في الإقليم والعالم.
رجلٌ كان يحاور النمل في زنزانته في الحبس الانفرادي سبع سنوات، حتى لا يفقد عقله، كما قال، يضطرّنا إلى أن ننصرف إلى أطايب القصص والحكايات والروايات والنصوص من هناك، من أميركا اللاتينية، مما قرأنا مترجَماً إلى العربية، ليست أنماط الدكتاتور وحدها التقطناها من هذا الأدب، وإنما أيضاً التجارب الثرية في التعبير عن الحياة بتنويعات الواقع المتعدّد فيها، كما كل حياةٍ في كل المجتمعات والبلدان. ويحدُثُ أن يتجاوز الواقع سقوف مخيّلات صنّاع أي كتابة. ورئيسٌ سابقٌ من قماشة الثائر العتيق، الرئيس النادر، الاستثناء الفريد، بائع الزهور في يفاعته، اسمُه خوسيه موخيكا، يتحدّى التوقّع، ويذهب إلى الأقصى، فنغبط شعبَه على هذا المثال منهم، فيما أحوالُ بلادٍ عربيةٍ زاهرة، أكثر ثرواتٍ وإمكاناتٍ من أورغواي، معلومةٌ للكافّة في كل أرض، وفي المستحيل وليس غيرِه أن نتصوّر خوسيه موخيكا عربياً.
