ARTICLE AD BOX
وصل الصيف مبكراً إلى دمشق. فجأة ارتفع ميزان الحرارة درجات عدة، وقاربت في أغلب الأيام الماضية 36 درجة مئوية في فترة الظهيرة، حتى لامست 40 درجة في بعض الأيام. وكما في باقي الأعوام الصعبة، يترافق القيظ مع عدة أزمات، تعاني منها سورية، في طليعتها الكهرباء، التي زاد حضورها، بالمقارنة مع فترة ما قبل سقوط نظام الأسد، من ساعتين إلى ست ساعات، وهي مرشحة لتحسّن أكبر بعد رفع العقوبات الأميركية والأوروبية.
دمشق توزع الزمن الضائع
حرارة الطقس في دمشق جافة عادة، لا تحول دون ممارسة متعة التجول، بل تتيح لكل ذي عين فضولية مراقبة المفاتن، التي يكشف عنها الصيف في البشر، والشجر، والثمار، والخضار. ويرى بعض الذين لم يغادروا العاصمة في سنوات الرصاص أن المسألة لا تتعلّق بموجة حرّ عابرة، آتية من بلاد أخرى، بل إنها عائدة إلى تحول في الطقس، بدأ منذ عدة أعوام، وهو يتسم ببرد قارس في الشتاء، وحرّ شديد، قبل وصول فصل الصيف رسمياً في شهر يونيو/ حزيران.
الأجهزة المختصة استكملت خطة إدارة دمشق أمنياً
هذا أوان الحرية في سورية. يحكم المزاج العام إحساس بالتخفف من ثقل الأبد الأسدي، حتى يبدو أن بلداً جديداً قيد التشكل. المعالم غير واضحة حتى الآن، لكن الدروب مفتوحة. يقول صحافي من الذين منعهم النظام السابق من السفر، إن السنة الأولى من سقوط النظام منذورة لتعويض ما فاتنا، وما أكثر ما ضاع. يطول الحديث عن الزمن الضائع، تتنوّع وتتعدّد الرغبات والأحلام والمشاريع بين السفر، والزواج، وتجديد البيوت، والاحتفالات.
لا أحد يريد الرجوع إلى الوراء، يدرك الناس أن عليهم السير إلى الأمام. هذا ما يردده الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي الذي دخل السجن مرتين، خلال حكم الأسد الأب والابن، بسبب مواقفه السياسية، ويقول إنه خلال حكم بشار الأسد كان الوضع سيئاً والأفق مغلقاً، واليوم لم تتضح صورة الحكم بعد، لكن الأفق مفتوح. ويوافق على ذلك الاقتصادي سمير سعيفان، الذي يرى أن هناك مساحة وهامشاً للعمل، قابلين للتطوير.
يسير الناس في دمشق غير مكترثين بالطقس الحار، وتتحدّث لغة الملامح والأجساد عن حالة استعادة تدريجية للعافية، بعد معاناة مديدة، سياسية واقتصادية وأمنية. عاشت أغلبية السوريين أعواماً من الخوف والرعب وكمّ الأفوه، واختفى كثيرون في المعتقلات، بعضهم لديه قبر، وعشرات الآلاف بلا قبور، ولا يعلم أحد مصير هؤلاء، وحسناً فعلت الدولة حينما شكّلت لجنة متخصصة بالكشف عن مصيرهم، وحتى الآن وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بالأسماء عدداً كبيراً بلغ 157 ألفاً، والأرقام في تزايد مستمر بعد سقوط النظام، إذ لم تتمكن آلاف العائلات من الوصول إلى معلومات بخصوص ذويها.
ومن المصادفات أن تشهد دمشق في اليوم الثاني لتشكيل الهيئة معرضاً نظمته مؤسسة "ذاكرة إبداعية" لتوثيق الذاكرة السورية في المتحف الوطني حول المفقودين والمغيبين قسراً، حضره جمهور كبير من المهتمين بهذه المسألة، التي تنتظر المزيد من العمل الرسمي من أجل كشف الحقائق عن مصير عشرات آلاف السوريين، الذين لا يعرف ذووهم شيئاً عن مصيرهم حتى الآن.
اتفاق معطّل
الاقتصاد هو الهمّ الأكبر، سورية دولة بلا موارد فعلية اليوم، ومن بين الأسباب أن "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) تسيطر على النفط والغاز والقسم الأكبر من الحبوب والقطن في محافظات الجزيرة السورية الثلاث، الرقة ودير الزور والحسكة. ولم يتم حتى الآن تطبيق اتفاق 10 مارس/ آذار الماضي بين الرئيس أحمد الشرع ورئيس "قسد" مظلوم عبدي، والذي يقضي بتسليم آبار النفط والغاز للدولة، حتى تتمكن من حلّ مشكلة الكهرباء على الأقل.
لم يتم حتى الآن تطبيق اتفاق مارس بين الشرع و"قسد"
تعطّل الاتفاق بعد قرابة أسبوعين بعد أن بدأ تنفيذه في حلب بتبادل معتقلين بين الدولة "وقسد"، وانسحاب بعض القوات الكردية من حي الشيخ مقصود. ويعود سبب التعثر إلى تراجع "قسد" عن تسليم "سدّ تشرين" الواقع على نهر الفرات، والذي تسيطر عليه وتستخدمه ورقة تفاوض في البازار السياسي. ويسود الاعتقاد أن تعنّت "قسد" مرشح لأن يتراجع بعد لقاء الرئيس السوري مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض في 13 من شهر مايو/ أيار الحالي، وما صدر عنه من تفاهمات تخصّ الانسحاب الأميركي من شرق سورية، ومن بعد ذلك زيارة الرئيس الشرع إلى تركيا على رأس وفد عسكري وأمني، واجتماعه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي شدّد من طرفه على الإسراع باندماج "قسد" في الدولة السورية.
وتشير الإحصاءات الدولية إلى أن الأغلبية السورية تعيش حالة فقر مدقع، يعبّر عنها على نحو صريح سلّم الرواتب الذي يتراوح بين 20 إلى 100 دولار، وهو ما لا يكفي الأسرة مدة أسبوع في الحد الأقصى، ما يدعو إلى البحث عن حلول إسعافية عاجلة، ووضع شبكة أمان غذائي لإنقاذ الناس، خصوصاً أن الموسم الزراعي في الجزيرة السورية من بين أسوأها لخمسين عاماً مضت، بسبب شحّ الأمطار الذي تترتب عليه أزمة مياه شرب كبيرة في المحافظات كافة، وخصوصاً الحسكة التي تواجه حالة عطش تستدعي تدخل الدولة لدى تركيا كي تسمح بضخّ كميات من المياه في نهر الخابور.
الحال يختلف بين فبراير/ شباط البارد وهذه الأيام. ويبدو أن العاصمة بدأت بالعودة التدريجية إلى إيقاعها الطبيعي، لقد خفّت الزحمة كثيراً، التي يعود قسم منها إلى نزول أعداد كبيرة من السوريين نحو دمشق بعد سقوط النظام. ونتيجة لتنظيم حركة السير استعاد المارة بعض الأرصفة، وبات العبور من رصيف إلى آخر أقل خطراً، بعد ما كان ضرباً من المخاطرة، بسبب تعطل الإشارات، وعدم مراعاة سائقي السيارات والدراجات النارية الراجلين.
المظاهر الأمنية التي كانت بارزة بقوة في الفترة الأولى من سقوط النظام، باتت مقتصرة على حراسة المباني والمقرات الرسمية، وهذا يدلّ على أن الأجهزة المختصة استكملت خطة إدارة دمشق أمنياً، ولم تعد بحاجة إلى نشر أعداد كبيرة من الأمن والجيش، وهذا مؤشر مهم إلى إخلاء المدن من الأمن والجيش بمجرد أن يستقر الوضع داخلها.
الخضرة تضفي على المدينة بهجة وسط حجم التراكمات التي ينوء السوريون تحت ثقلها وأعبائها الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن مقتل أكثر من نصف مليون، وفقدان عشرات الآلاف في السجون، وتهجير أكثر من 15 مليوناً داخل البلد وخارجه، ليس بالأمر السهل، الذي يمكن أن تطوى صفحته بسهولة. إنه يحتاج إلى عمل دؤوب، يبدأ بتشكيل هيئة العدالة الانتقالية، التي تترتب عليها مسؤوليات كبيرة، بالنظر إلى العدد الكبير من الجرائم التي اقترفها النظام السابق.
يبدو أن نظافة المدينة تحتاج إلى إمكانات مادية وتقنية غير متوافرة حتى الآن، وتقتصر العملية على أساليب تقليدية فقط، حيث يقوم عمال البلدية بجمع القمامة، وكنس الأرصفة، في حين تغيب الآلات المتخصصة بالتنظيف السريع، ورفع الزبالة التي تتراكم في الحاويات. ويعوّل أهل دمشق على أن تشهد الفترة المقبلة تطوير البنية التحتية، لتحسين الخدمات.
يدرك من يستمع إلى المحاورات التي تدور في المقاهي والسهرات أن أنصار النظام السابق بدأوا باستيعاب الوضع الجديد، وتراجع تشنّج وعصبية هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها خارج السلطة، التي تنعّموا بها عدة عقود، وعاشوا على الدولة بوصفها البقرة التي تدر حليباً لفئة من الذين يشكلون بطانة الحكم. وفي الوقت ذاته خفّت حالة الاحتقان التي تلت الأحداث في الساحل السوري في مارس الماضي، بينما تتواصل تداعيات أحداث جرمانا وصحنايا والسويداء، وآخرها ما حدث في مقر المحافظة، حيث حصل توتر في مقر المحافظة ومكتب المحافظ مصطفى البكور، استدعى منه ترك مكتبه والمغادرة إلى العاصمة.
الأسواق عامرة بالمنتجات المحلية الطازجة بأسعار رخيصة، لكنها غير متيسرة للجميع، ولا تتناسب مع دخل الشريحة الواسعة من السوريين، التي تعيش منذ أعوام عدة فقراً وتقشفاً ملحوظاً في مناحي حياة الناس، الذين يجهدون من أجل تحصيل قوتهم وسط انهيار الاقتصاد على نحو مريع.
حلّ مكان نشوة النصر أمل رفع العقوبات. وبات لسان حال أغلبية السوريين يردد "انتظرنا الكثير، وبقي القليل". لكنه انتظار حذر، في ظل ترتيبات وتعيينات في مؤسسات الدولة من لون سياسي واحد، يغلب عليها الولاء لا الكفاءة.
مقهى الروضة الدمشقي هادئ في الصباح. عدد الزبائن قليل والسماء صافية، قبل أن تتلبّد بدخان النراجيل التي تقصف من شتى الجهات. رجال ونساء يتبارون بسحب الأنفاس، التي تغطّي فضاء المقهى. هي فرصة لغير المدخنين والباحثين عن الهدوء، ولعدد من طيور اليمام الدمشقي، التي تهدل بنبرة حنونة قبل أن تفرّ نحو سطوح المباني العالية، غير مبالية بالهجير المبكر.
البعض يتحدث عن الاحتباس الحراري، وآخرون عن لعنة الزمن الأسدي، الذي لم يزرع شجرة تبث الأوكسجين، بل دمّر قسطاً كبيراً من غوطة دمشق، التي كانت رئة المدينة، وسرّ جمالها ومبعث بهجتها.
