ذكرى النكبة... فلسطينيو الداخل يفتقدون قراهم المهجرة

2 weeks ago 7
ARTICLE AD BOX

يقطن بعض فلسطينيي الداخل على مقربة من قراهم التي هجروا منها، وهو ما يذكرهم بالنكبة يومياً، لذلك يحرصون على توثيق الرواية الشفوية 

خلال أعوامها المائة التي عاشتها، لم تحقق الحاجة آمنة السعيد حلمها بالعودة الى مسقط رأسها، قرية الدامون في قضاء عكا، التي هُجرت منها إبان النكبة عام 1948. قبل أسابيع قليلة، دفنت في مدينة طمرة، على مسافة قصيرة من قريتها التي وُلدت فيها. في أيامها الأخيرة، كان مرض الزهايمر قد محا ذاكرتها، ولم يبق منها إلا الدامون ووالدها. حكاية الحاجة آمنة هي إحدى حكايات النكبة المستمرة منذ 77 عاماً. والدامون واحدة من بين 531 قرية فلسطينية هجرتها العصابات الصهيونية. في هذا العام، يغيب عن أنشطة النكبة في الداخل الفلسطيني الكثير من أبناء الجيل الثاني والثالث ممن اعتادوا الحضور لتسليم الراية، لكنهم رحلوا ولحقوا بالجيل الأول.       
على السفوح الغربية من جبال الكرمل، قرية عين حوض الصغيرة التي يعيش فيها عدد قليل من السكان. لكن مكانها الأصلي يقع على مسافة قريبة، حيث استوطن الأغراب بعد تهجير أهلها من قبل العصابات الصهيونية، وأطلقوا على المكان اسم عين هود، وباتت تُعرف بأنها "بلدة الفنانين الإسرائيليين". 
في عين حوض الجديدة المطلة على شاطئ البحر المتوسط، وأحراش الكرمل الخلابة، يسكن الكاتب سمير أبو الهيجاء من الجيل الثالث للنكبة. يمر يومياً قرب قريته الأصلية، الأجمل من الحالية، والتي تذكره كل يوم بالنكبة. على أحد الجدران في منزله الذي زارته "العربي الجديد"، صورة لجده من الجيل الأول للنكبة. وعلى جدار آخر صورة لوالده. وفي مكتبته الكثير من الكتب، منها 11 كتاباً من تأليفه. تجمع الكثير من قصص النكبة وحكاياتها، ليس من المهجرين داخل أراضي 1948 فحسب، ولكن في الشتات أيضاً.
يقول أبو الهيجاء لـ "العربي الجديد": "قضيت عقدين من الزمن في توثيق الرواية الشفوية كونها ذات أهمية كبيرة. قابلت الكثير من المهجرين في البلاد وخارجها. اليوم أقول إن النكبة مستمرة بأشكال عدة، وأيضاً على مستوى المجتمع العربي في الداخل. قبل أشهر عدة على سبيل المثال، هدمت السلطات الإسرائيلية منزل ابني بحجة عدم الترخيص، كما هدمت منزل ابن عمي. كل البلد هنا بلا ترخيص. من أشكال النكبة عدم توسيع مناطق النفوذ وإصدار رخص بناء. هذا يندرج في إطار السياسة الإسرائيلية تجاه المجتمع العربي".
يرى أبو الهيجاء أن توثيق الرواية يقطع الطريق على بعض السياسيين العالميين والإسرائيليين لمحو تاريخ الشعب الفلسطيني وهويته. "خلال جمعي الشهادات، خلصت إلى أن الناس لن تنسى النكبة، ولا حتى الأجيال الصغيرة في الشتات، وكلهم متمسكون بالعودة".

فضلاً عن مؤلفاته، يقود أبو الهيجاء جولات لمجموعات يُعرّفها على قرية عين حوض وتاريخها. ويرى أن شريحة واسعة من جيل الشباب، أي أحفاد المهجرين في الداخل، يحرصون على زيارة بلداتهم المهجرة والتعرف عليها وحفظ ذاكرتهم إزاءها، في حين فقد آخرون الدافع ويحتاجون إلى من يعزز وعيهم. وعلى مستوى المجتمع عامة، "هناك تحرك، وأشعر بهذا من خلال دعوتي لإلقاء محاضرات عن النكبة في عدة مؤسسات ومدارس، أو التوجه إلى تنظيم جولات في قرى عدة، مثل عين حوض ومنطقة الساحل الكرملي التي فيها نحو 16 قرية مهجرة".  
ويقول أبو الهيجاء لـ "العربي الجديد" إن "هناك عدداً من جيل المهجرين الذين بقوا في البلاد، واحتفظوا بأسرار منها ما يتعلق بالتصدي للعصابات الصهيونية، وكشفوها في آخر أيامهم فقط، خشية ملاحقتهم". وتنسج الروايات والحكايات التي جمعها على مدار عقدين من الزمن، حياة كانت تدب في فلسطين قبل النكبة، خلاصتها أن "فلسطين كانت مجتمعاً حضارياً ومتحضراً، وفيه طبقة متعلّمة ومثقفة جداً، خاصة في مدن مثل يافا وحيفا وغيرهما". ومن روايات القهر الشفوية التي جمعها، حكاية لاجئ من قرية الكويكات، قضاء عكا، همّ بقتل ابنته الصغيرة التي كانت تصرخ وقت التهجير ولا يجد ما يطعمها. حكى له ذلك اللاجئ أنه هم بقتل طفلته لاعتقاده أنها سيريحها من القهر، فوضعها على صخرة وصوب سلاحه نحوها، قبل أن تنطق فجأة "بابا واوا"، إذ يبدو أن شيئاً آلمها على الصخرة. سمعها الوالد وعاد فاحتضنها.
يزور زياد طميش ابن اللجون المهجرة، الذي يسكن اليوم في مدينة أم الفحم المجاورة، أطلال قريته يومياً. وفي حديثه لـ "العربي الجديد"، عاد طفلاً صغيراً يرتع عند جدول ماء، لدى استذكاره ما كان قبل التهجير. يقول: "كان عمري أقل من ست سنوات في عام النكبة، لكن الكثير من المشاهد لا تزال عالقة في ذاكرتي. أذكر بيتنا ولون شباكه وبابه الأخضر. كنا قرب وادي الست وعين الخليل. كانت منطقة نسميها السوق، وكانت هناك عريشة نصعد على السلم لنجلس فوقها. أذكر مرافقتي أمي إلى عين الماء، وعمالاً يدوسون القمح والشعير على لوح الدراس (الذي كان يستخدم لدق سنابل القمح والشعير) المصنوع من خشب قوي ومرصع بحجارة. كانوا يضعوننا على اللوح ويرموننا على التبن بهدف اللهو. ولا أنسى أنني كدت أُنسى أثناء التهجير. حملت أمي شقيقي الأصغر وكان والدي قد خرج عقب استشهاد أحد الأقارب. وقت الهجوم، أمسكت بثوب أمي، ومع دوي إطلاق النار وبكاء الأطفال، يبدو أنني أفلتّ الثوب. عثرت عليّ جارتنا وحملتني إلى أمي، وبقيت تقول لي حتى آخر حياتها: لو ما لقيتك لكانوا اعتقلوك أو صرت يهودياً. أذكر خربة دار جدي أهل أمي. حين كنت أذهب إلى العين، كانت أمي تقول إن المكان مخصص للشباب لاختيار العرائس. كانت تُسمى طريق الملايات قبل أن يتوجهوا إلى أهلهن ويخطبوهن. أما اليوم، فأزور اللجون يومياً. يشدني المكان حيث أصلي وأبقى لنحو ساعتين قبل العودة إلى بيتي في أم الفحم".

يحرص طميش على المشاركة في مختلف الفعاليات في اللجون بالإضافة إلى جولات الإرشاد. كثيراً ما يشرح للشباب والزوار عن القرية التي لا تزال آثار مقبرتها ومسجدها قائمة، وعن جداول وعيون المياه فيها. يقول منفعلاً: "المنطقة بتجنن"، في إشارة إلى شدة جمالها، مضيفاً: "أكرس وقتي لنقل الرواية الشفوية. أحياناً، ندخل كيبوتس مجيدو القائم على أراضي القرية، لمراقبة وضع المسجد وتنظيفه وهذا لا يروقهم. عندما أحكي عن اللجون تنتفض حواسي ومشاعري. مساهمتي في نقل الرسالة إلى المجموعات والأجيال الجديدة يخفف بعض ما يحتقن في داخلي".
لا تزال القرية المهجرة مستهدفة حتى اليوم. تخطط السلطات الإسرائيلية إلى إقامة متنزّه على أراضيها، فيما يعارض أهل البلد الأصليين ذلك لأسباب، منها خشيتهم تغيير معالمها وإقامة مسارات وبوابة ومدخل مع تذاكر. ولا تزال القضية عالقة في المحاكم، وفق طميش. ويوضح: "جاؤونا لاحقاً بمشروع أصغر قليلاً لإقامة مسارات حول الواد، وإصلاح عين الحجة (إحدى عيون الماء) كجزء من المشروع، لكننا نعارض حالياً".

في بلدة كابول في قضاء عكا، تسكن اشتياق حمادي، على مرمى حجر من قرية الدامون المهجرة، ولا تخفي ابنة الجيل الرابع للنكبة، في حديث لـ "العربي الجديد"، اشتياقها الدائم لجذورها، ما يدفعها دائماً إلى زيارة القرية والمشاركة في نشاطاتها. كانت الدامون قرية عامرة بمدرستها ومسجدها وكنيستها وأعمالها، وكان يقصدها الكثيرون من أبناء القرى المجاورة. تقول اشتياق: "من المهم دائماً تعريف أبناء الجيل الجديد بجذورنا كي تبقى في ذاكرتهم، ويعرفوا حكايات أجدادنا. وهناك قصص مؤثرة يجب أن تُحكى تعبر عن بعض مأساتنا. مثلاً أمي رحمها الله خرجت من الدامون بعمر ثلاث سنوات، أي لم تكن واعية لما يحدث. هُجروا ووصلت مع أمها وأبيها كما نُقلت لها الرواية إلى قرية نحف في منطقة الشاغور. هناك قُتل والدها ولاحقاً استشهدت أمها التي كانت حاملاً في الشهر التاسع بعدما أنجبت. كبرت أمي وإخوتها يتامى. منذ فترة ليست طويلة تعرفنا على قبر جدي قاسم الذي ولد عام 1948 وهو موجود في قرية نحف".
تضيف: "نحن جيل يحمل الراية وسيسلم الراية لمن هم أصغر. منذ طفولتي وأمي تحكي لي أننا لاجئون ومن بلدة مهجرة اسمها الدامون. هكذا تشكل وعينا. لي أعمام في سورية ولبنان وغيرهما". وحول نشاط "ليلة العودة إلى الدامون" في الآونة الأخيرة، تقول اشتياق: "هذا العام يبدو أن الناس تأثروا بالجو التحريضي وكان الحضور محدوداً. شعرت بأننا عدنا سنوات عدة إلى الوراء. الوضع تغيّر منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. حتى إنه تم استهداف لوحات فنية كان عليها علم فلسطين".

Read Entire Article