ARTICLE AD BOX
في زمنٍ تبدّلت فيه المعايير وتشوّهت فيه البوصلات، لم يَعُد الفنانُ يلتفتُ إلى رأيِ الناقد، ولا يعيرُ اهتمامًا لصوتِ الصحافة الفنيّة. بات يوجّه بصره إلى جمهوره الخاص، ذاك الذي لا يعارضُ، لا يُسائل، لا يُقيم، بل يصفّق دائمًا… حتى إن أخطأ. وهنا تكمنُ الكارثة.
ليس الفنّ ترفًا، ولا الأغنية مجرّد صوتٍ عابر. هما مرآةُ مجتمع، ونبضُ مرحلة، وجسرٌ يصل بين الوجدان والوعي. لكن حين يغيبُ الناقد الحقيقي، ويتحوّل الإعلاميّ إلى ناقل أخبار تافهة، يلهث خلف فضيحة أو إشاعة أو صورة في مطار… تضيعُ القضيّة، ويبهتُ الفنّ.
لم تعد الصحافة الفنيّة تُمارس دورها الأصيل، ذاك الذي يُنقّي الساحة، ويُضيء على القيمة، ويُسائل العمل قبل صاحبه. بل باتت منصّاتٍ للمديح الأرعن، أو ساحاتٍ للصراخ والمهاترات. في هذا المشهد الهشّ، تراجعت جودة الأغاني، وانحدرت الموسيقى من الذائقة إلى الضوضاء، لأن أحدًا لم يعُد يقول: “هذا العمل لا يليق”.
وأدهى من ذلك، أنّ الصحافي حين يُبدي رأيًا نقديًا، يُرمى باتهاماتٍ شنيعة: يُقال عنه إنه مأجور، وإن قلمه مُرتشٍ، وإنه يُصفّي حساباتٍ بالنيابة عن فنانٍ منافس! يغيب النقاش المهني، ويحلّ محلّه منطق “من مع مَن؟” و”لِمَن تكتب؟”، وكأنّ النقدَ فعلُ خيانة، لا فعلُ إصلاح. يُصبح الصحافي هو المعتدي، لا من شوّه الأغنية. ويُلاحَق الناقد كأنه ارتكب جريمة، لمجرّد أنّه قال الحقيقة في زمنٍ يُخيفه الصدق.
الفنانُ الذي يُنتج ويغنّي دون أن ينتظر رأيًا مهنيًا ناقدًا، كمن يبني بيتًا دون أساس، ولو امتلأ بالمصفقين. أما الجمهور الذي يُبارك كلّ شيء، فيفقد تدريجيًا حسّه النقدي، ويصبح تابعًا لا مُتلقيًا نبيهاً.
بل أكثر من ذلك، صار بعض الفنانين يختارون بعناية من يحيطون بهم من الإعلاميين، لا على أساس الكفاءة أو العمق، بل على مقدار المديح الذي يمكنهم أن يمنحوه. باتت الحفلات تُنسّق بحسابات دقيقة: من يُدعى هو من “يُلمّع”، لا من يُقيم. من “يُبيض الطناجر”، لا من يُضيء العتمة. يعرف الفنان أن الإعلامي الذي يجلس في الصف الأول يُجامل، وربما يكذب، لكنه يريده إلى جانبه… لأن الصدق صار يُربكه. لم يعُد يسعى إلى مرآة، بل إلى انعكاسٍ مزيف يُرضي صورته فقط. وهكذا، يتحوّل الإعلام إلى مرآب للمجاملات، وتُستبدَل الكلمة الحرّة بمسرحٍ من التملّق المفضوح.
الإعلامُ والفنّ كانا دائمًا في مركبٍ واحد. الأول يُضيء الطريق، والثاني يَسلكه. وإذا اكتفى الإعلامُ بركوب الموجة، وبات يُطارد الفنانين في حفلاتهم وأعراسهم وملابسهم، بدل أن يسائلهم عن رسالتهم وإبداعهم… فإننا لا نعيش زمن الفن، بل زمن الاستعراض.
صحيح أن الخبر مهم، لكنّ الأهم هو: أيّ خبر؟ هل هو خبرٌ يُنير وعينا، أم يُثير فضولنا الرخيص؟ هل هو تحليلٌ لمضمون أغنية تُشكّل ذاكرة، أم مجرّد تعدادٍ لـ “اللايكات” والمشاهدات؟ إن الفنّ لا يُقاس بالانتشار وحده، بل بالعمق، بالتأثير، وبالصدق الذي يحمله.
ويبقى هناك جمهورٌ لا يُغريه الضجيج، وقرّاء يعرفون التمييز بين الذهب والطلاء، بين من يغنّي للحياة، ومن يتاجر بها. هؤلاء، وإن قلّوا، هم الأمل، وهم من سيعيدون الاعتبار للفن، وللكلمة، وللمعنى.
بقلم شربل الغاوي