ردّاً على أحمد طعمة: أداء السلطة في سورية

2 weeks ago 8
ARTICLE AD BOX

يطرح مقال أحمد طعمة "هل استوعبت السلطة السورية دروس الساحل؟" الذي نشرته "العربي الجديد" في 1/5/2025 رؤية نقدية لأداء السلطة الانتقالية في سورية، ويتهمها بتجاهل قوة الشعب، والتصرّف بثقة مفرطة، وتهميش القوى الثورية، عبر إجراءات وقرارات محدّدة. وفي حين أن النقد والمساءلة ضروريان لضمان عدم انحراف المسار عن أهداف الثورة، فإن قراءة أداء السلطة بمعزلٍ عن الظروف الكارثية التي تمرّ بها سورية حالياً قد تقود إلى استنتاجاتٍ تبسيطية، لا تخدم فهم الواقع المعقّد، فسورية اليوم ليست مجرّد دولة تمرّ بمرحلة انتقالية، بل هي بلد يصارع للبقاء على قيد الحياة وسط دمارٍ هائل، وانهيار اقتصادي، وهشاشة أمنية، وتركة ثقيلة من الاستبداد والانقسام.

من هذا المنطلق، يبدو تصوير السلطة في سورية أنها تتصرّف بغطرسة أو تتجاهل إرادة الشعب بحاجة إلى مراجعة، فالظروف الحالية، بما تتضمّنه من خطر عودة الفوضى، أو فلول النظام السابق، وتحدّيات اقتصادية خانقة، وضغوط خارجية، تفرض على أي سلطة مسؤولة درجة عالية من الحزم والتماسك، قد تبدو لبعضهم ثقة مفرطة.

تُقدم تجارب دول ما بعد الثورات في المنطقة العربية، لا سيما التي اتجهت نحو تشكيل حكومات تشاركية واسعة النطاق، دروساً بالغة الأهمية للسياق السوري الراهن، فبعيداً عن أنها حلٌّ سحري للانتقال السياسي، كشفت مسارات دول، مثل ليبيا واليمن، وحتى تونس، بدرجة أقل حدّة، عن أخطار جمّة قد تحوّل هذه التشاركية إلى وصفة لعدم الاستقرار، أو حتى الانهيار الكامل للدولة.

تصوير السلطة في سورية أنها تتصرّف بغطرسة أو تتجاهل إرادة الشعب بحاجة إلى مراجعة

ففي ليبيا، أدّى الانقسام الحادّ بين الفرقاء السياسيين والعسكريين، المقترن بفشل الحكومات المتعاقبة في احتكار السلاح، وبناء مؤسّسات وطنية جامعة، إلى تحويل التشاركية الاسمية إلى غطاءٍ لاستمرار الصراع وتدخّل القوى الخارجية، ما أفضى إلى انقسام فعلي للبلاد. وبالمثل، لم تنجح حكومة الوفاق الوطني في اليمن التي انبثقت عن المبادرة الخليجية، في معالجة جذور الصراع والانقسامات العميقة، بل وفّرت بيئة استغلها الحوثيون لتوسيع نفوذهم، لتنزلق البلاد في أتون حربٍ أهلية مدمّرة فاقمتها التدخّلات الإقليمية.

وحتى في التجربة التونسية، التي غالباً ما تُقدم نموذجاً، واجهت حكومات التوافق صعوباتٍ كبيرة، تمثلت في الاستقطاب الأيديولوجي الحادّ، والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وعدم الاستقرار الحكومي، ما أضعف المسار الديمقراطي برمّته.

تشير هذه التجارب، بوضوح، إلى أن مجرّد جمع الأضداد السياسية في حكومة واحدة، من دون توافق وطني حقيقي بشأن أسس الدولة ومستقبلها، ومن دون معالجة قضايا جوهرية، كنزع السلاح، وبناء مؤسّسات قوية ومحايدة قادرة على فرض سيادة القانون، وتحييد الصراع عن التأثيرات الخارجية السلبية، قد يؤدّي إلى نتائج عكسية تماماً، حيث تتحوّل هياكل الحكم الانتقالي نفسها إلى ساحة لتصفية الحسابات، وتعميق الانقسامات، بدلاً من جسر للعبور نحو الاستقرار المنشود.

حجم التحدّي المتمثل في بناء دولة من تحت الأنقاض هو بحد ذاته سبب رئيسي لخيبة الأمل، ولا يمكن تحميل السلطة وحدها مسؤوليته

يتطلب بناء سلطة انتقالية فعالة في سورية، إذن، تجاوز منطق المحاصصة الشكلية، والتركيز على بناء أسس الدولة الصلبة، ومعالجة الانقسامات المجتمعية العميقة، أولوية قصوى لضمان عدم تكرار سيناريوهات الانهيار التي شهدتها دول الربيع العربي.

المهمّة الأولى في مثل هذا السياق منع الانهيار الكامل للدولة، وتثبيت الحد الأدنى من الأمن والاستقرار، وهي مهمّة تتطلب قرارات صعبة وسريعة، قد لا تكون شعبية بالضرورة، لكنها حتمية لتجنّب الأسوأ. كما أن تفسير "الدعم الشعبي" في غياب الآليات الديمقراطية، وانعدام الثقة السائد يبقى أمراً عسيراً؛ فالخوف من المجهول، أو من عودة النظام البائد، قد يكون محرّكاً أساسياً لهذا الدعم الحذر، وهو ما تدركه السلطة، وتتعامل معه بوصفه جزءاً من الواقع المرير.

وبالمنطق نفسه، يمكن النظر إلى إجراءاتٍ مثل الإعلان الدستوري المؤقت الذي يمنح صلاحيات واسعة، أو تشكيل حكومة تكنوقراط، ليس بالضرورة باعتبارها أدوات تهميش متعمد للقوى السياسية والثورية، بل استجابات عملية لضرورات المرحلة، ففي ظل الفراغ الدستوري، والحاجة الماسّة لاتخاذ قرارات عاجلة لمواجهة الأزمات المتعدّدة، قد يكون تركيز السلطة مؤقتاً في يد الرئيس الانتقالي آلية لتجاوز الشلل الناتج عن الانقسامات العميقة، وكذلك، في مواجهة انهيار مؤسّسي شامل وإرث من الفساد، قد يكون اللجوء إلى الكفاءات الفنية (التكنوقراط) هو السبيل العملي لمحاولة إعادة تشغيل المرافق الأساسية وتقديم الخدمات للمواطنين، وتجنب المحاصصة السياسية التي قد تعطل الإدارة في وقتٍ لا يحتمل التأخير، وهذا لا يعني تبرير هذه الإجراءات على المدى الطويل، بل فهمها بوصفها خيارات صعبة في سياق استثنائي، مع التأكيد على أهمية العودة للمسار التشاركي والديمقراطي حالما تسمح الظروف.

يتطلب تقييم أداء السلطة الانتقالية في سورية توازناً دقيقاً بين فهم الضغوط الهائلة والظروف الاستثنائية التي تعمل في ظلها

أما ظاهرة "الانصراف"، أو إحباط بعض الثوار، فربطها حصراً بسياسات السلطة يبدو أيضاً تبسيطاً، فالاصطدام بواقع الدمار الهائل، وشح الموارد، وعمق الانقسامات، وبطء عملية التغيير، والإرهاق العام بعد سنوات الحرب الطويلة، كلها عوامل كفيلة بإصابة أكثر المتفائلين بالإحباط. حجم التحدّي المتمثل في بناء دولة من تحت الأنقاض هو بحد ذاته سبب رئيسي لخيبة الأمل، ولا يمكن تحميل السلطة وحدها مسؤوليته.

ومع ذلك، ورغم ضرورة فهم السياق الصعب الذي تعمل فيه السلطة الانتقالية، فإن هذا لا يُعفيها من المسؤولية عن قراراتها التي تقف على تخوم الانحراف عن مسار الثورة، وهنا أتفق تماماً مع ما أثاره المقال من قلق مبرّر تجاه قرار وزارة الخارجية رقم 53 بإنشاء أمانة للشؤون السياسية تابعة لها، فهذا القرار، بغضّ النظر عن مبرّراته التنظيمية المحتملة، يمثل مؤشّراً سلبياً للغاية، لأنه يصادر الفضاءين، العام والسياسي، ويتعارض بشكل صارخ مع روح الثورة التي قامت أساساً لاستعادة هذا الفضاء، وتحقيق الحرية والمشاركة السياسية، في مرحلة تتطلب بناء الثقة، تأتي مثل هذه الخطوات لتبعث رسائل خاطئة، وتزيد من الهوة بين السلطة والمجتمع، وهو أمر خطير يجب التراجع عنه.

ختاماً، يتطلب تقييم أداء السلطة الانتقالية في سورية توازناً دقيقاً بين فهم الضغوط الهائلة والظروف الاستثنائية التي تعمل في ظلها، وبين اليقظة النقدية تجاه أي إجراءاتٍ قد تمثل انحرافاً عن أهداف الثورة وتطلّعات الشعب السوري في بناء دولة رشيدة حرّة وعادلة، وبينما يمكن تفهّم بعض الإجراءات باعتبارها ضرورات مؤقّتة تفرضها الأزمة، فإن خطوات مثل القرار 53 تظل غير مبرّرة، وتستدعي معارضة واضحة، لأنها تمسّ جوهر ما ناضل السوريون من أجله.

Read Entire Article