ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">التهجير الفلسطيني بريشة الكاتب والمناضل غسان كنفاني (مؤسسة كنفاني)</p>
على رغم نهج المحو الذي يسعى عبره المحتل إلى السطو على الأرض والذاكرة والتاريخ، لا ينفك الأدب الفلسطيني يتصدى له، كما في رواية "الإمام" للكاتبة الفلسطينية باسمة التكروري التي تحاول أن تمنح نفساً جديداً لهذه المواجهة، مستعيدة الأراضي والبيوت المسلوبة والأزقة التي طمسها الخراب والوجوه التي أنهكتها وحشية الحرب، ومرارة التهجير.
تنطلق الفلسطينية المقيمة في كندا باسمة التكروري في روايتها الأحدث "الإمام" (دار طباق) من إلهام استمدته من قصة جدها محمد خليل التكروري التميمي إمام المسجد الأقصى. تشرع في رحلتها السردية بتوطئة تمهد فيها لأبطال ليسوا حقيقيين، ونص على رغم واقعيته، تهيمن عليه مساحات التخييل، "علي النابلسي وسلوى الديجاني، شخصيتان متخيلتان، لكننا نحمل قصتهما في شيفرتنا الوراثية، كلما ولدنا في القدس، مهما حملنا من أسماء وكنيات".
وفي مفارقة لافتة، تبدأ الأحداث من مشهد موت "الإمام"، لتجتمع البداية والنهاية في لحظة واحدة، من داخل المستشفى الإسرائيلي "شعاري تسيديك" في القدس الغربية. وتمهد الكاتبة عبر هذه البداية لسيرة طويلة من الفقد والقتل الذي بات عادة يومية تحت عجلات المراكب العسكرية التي لا تميز بين ضحاياها، فلا تتورع عن دهس طفل، أو امرأة، أو شيخ وقف يحمي مسجده.
استعارة مفخخة
وهكذا يتجلى أن التكروري لم تشرع سردها بهاجس الموت، كترف ما بعد حداثي، وإنما كانت تحاول الاشتباك مع واقع شاع فيه حصد الأرواح، حتى لم يعُد القتل، لفرط تكراره، شيئاً تجزع منه الروح الفلسطينية، ومن مشهد البداية الذي يقع في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تعود الكاتبة عبر الـ"فلاش باك" لعام 1920، لتنطلق من نقطة زمنية أخرى ببداية جديدة، في سرد تتدافع أحداثه إلى الأمام، ويتزامن عبره انتشار الاحتلال البريطاني في الأراضي الفلسطينية، مع ولادة "علي النابلسي"، الشخصية المحورية في الرواية. وتنتهج الكاتبة صوت الراوي العليم لترصد أزمة عائلية كانت بمثابة استعارة مفخخة لمعنى الوطن المنقسم ومدخل عبرت منه نحو القضايا الكبرى.
امتد الفضاء الزمني للأحداث من عام 1920 حتى ما بعد نكبة 1948. وتطلب هذا الفضاء الزمني الممتد، اعتماد الكاتبة تقنية الحذف للإسراع في السرد وإبراز اللحظات المفصلية في تاريخ الشخصية المحورية وتاريخ الوطن. كذلك تنوعت الفضاءات المكانية للأحداث، فشملت نابلس ويافا والقاهرة والقدس والصحراء الليبية. ومن خلال هذه الرحلة الممتدة عمدت التكروري لإبراز ما يسم النفس والعالم من تناقضات، تجمع في نفس واحدة بين الألم والسكينة، والموت والحياة، والحنان والقسوة.
وتجمع في وطن واحد بين من يهادنون المستعمر ومن يقاومونه، وفي بيت واحد بين الأخ المحب والأخ الحاقد، وفي مدينة واحدة بين القديم والحديث. وتجمع في عيد واحد بين الصخب والصمت، والفرحة والحزن، والجوع والشبع، وكأنه ليس عيداً للجميع، "العيد هنا أيضاً، إلا أنه لا يشبه العيد الذي رآه في السوق، تساءل في نفسه إن كان العيد يأتي بأشكال مختلفة، وإن كان للعيد الواحد أكثر من وجه، وقبل أن يتمكن من التفكير أكثر، هتف صوت من الجهة الأخرى، من الساحة: جاء العسكر" (صفحة 33).
بين البيت والوطن
وعمدت الكاتبة للارتحال من الشخصي إلى الجمعي، ومن تفاصيل الحياة اليومية إلى القضايا الكبرى. فانطلقت من صراع عائلي، لتبرز نوعاً من التماثل بين انكسار العائلة وانكسار الوطن. كما اعتمدت تقنية التناظر بين ما قام به الأخ الأكبر من الاستحواذ على مال أخيه وطرده من بيته، وبين قيام المحتل البريطاني ثم الصهيوني بالاستحواذ على الأرض الفلسطينية وطرد أهلها منها. وكان كلا السلوكين مقدمة لصراع طويل، احتدم بين غالبية الشخوص، ولا سيما بين الأخوين وبين "علي" وأبيه وبين "علي" و"سلوى" وبين الثوار والمحتلين وبين العلم والجهل وبين التعصب الأعمى والفهم الصحيح للدين.
كذلك بدا الصراع بين الأيديولوجيات المتباينة التي عكست بدورها تصورات مختلفة تارة للأسلوب الأمثل في التعامل مع المحتل، وتارة أخرى لأسباب ضياع الوطن. كما بدا الصراع في العوالم الداخلية للشخوص، فاشتعل في قلب "يوسف" بين حبه لابنه، وغضبه لانحرافه عن مصير قرره له. ومزّق "فاطمة" التي انقسمت بين ولدين أنجبهما رحمها نفسه، لكنه لم يمنح الابن الأكبر قلباً محباً لأخيه. واندلع في أعماق "سلوى"، المنقسمة بين حب لـ"علي" ونقمة عليه، وكذا في دواخل "علي" بين حبه لأخيه وإدراكه ما يناله منه من سهام الكراهية. بينما استعانت الكاتبة بصوت الرواي لاستجلاء الصراعات الداخلية للشخوص، "حملق الحاج يوسف في النافذة، مستهلكاً كل طاقته ليئن، حاول أن ينادي على علي. لكن صراخه وقف في حلقه، وتحول إلى أنين ضعيف ندت عنه شفتاه" (صفحة 175).
ووظّفت التكروري الأحلام لاستجلاء مزيد من تلك الصراعات، وكذا لتعزيز البعد النفسي للسرد، إذ كشفت عبرها عن أزمة البطل واضطرابه النفسي بعد استشهاد رفاقه وإصابته بعقدة النجاة، أو ما يسمى "ذنب البقاء على قيد الحياة". أما الحوار، فكان أداة لتقليل سلطة الراوي العليم لمصلحة الشخوص، إذ سمح لهم بحرية التعبير عن ذواتهم وإبراز اختلافاتهم وأيديولوجياتهم المتباينة. كذلك أسهم الحوار في إضاءة الصراع الخارجي الذي هيمن على كل مفاصل السرد، "أنت صبي لا تفهم شيئاً عن العالم، فحَّ محمد بصوت منخفض، إلا أن الجميع سمعها. وأنت رجل لم يتعلم سوى الركوع. قالها علي ببرود" (صفحة 55).
الليلة والبارحة
وسعت التكروري عبر ما نسجته من صراع إلى توثيق معاناة الشعب الفلسطيني المتصلة عبر التاريخ الممتد، كما وثقت ما خلفته آلة القمع الاستعمارية من عنف وقتل وحرق وعقاب جماعي وتدمير ونهب، إضافة إلى دفعها أبناء الشعب المحتل للمشاركة في حروب لا تخصهم، وإعدام الفارين من ويلاتها، أو كل صوت يطالب بالحرية والاستقلال. ووظّفت الخطاب المعرفي لدعم ما رصدته من معاناة وما طرقته من قضايا، فاستدعت مذابح عصابات الـ"هاجاناه"، مجزرة دير ياسين، التجويع والتهجير القسري للفلسطينيين. وحملت محاولاتها لاستنطاق الماضي، رسائل ضمنية تحيل لمأثور يقول "ما أشبه الليلة بالبارحة"، إذ لا يزال الواقع الفلسطيني يعيش مآسي الماضي ذاتها، من حصار وقتل وتشريد وتجويع "في البئر المظلم، تحت القدس التي كانت تنهار فوق رؤوسهم، بكت سلوى كما لم تبكِ من قبل. بكت لأن الجوع كان يقتلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن الحرب سرقت كل شيء" (صفحة 226). وفضلاً عما طرقته من قضايا، رصدت التكروري ما تسبب فيه الاستعمار من تحولات، طاولت المدن فتبدلت ملامحها، وطاولت الرزق فشحّ، والحياة فأعرضت، وطاولت حتى وجوه الناس. كذلك رصدت تحولات بطلها من الاستقرار إلى التشرد، ومن الإذعان والصمت إلى التمرد، ومن الرفاهية إلى الفقر والبؤس، ومن التيه إلى الوصول. ومرّرت رؤى وتأملات فلسفية حول الحقيقة، الهوية المأزومة. كما مرّرت إدانات ضمنية للذات وللتخاذل وللتنظير السياسي وللإصرار على النقل بلا إعمال للعقل والتشدد الديني الذي غذاه الاحتلال "هل يجوز للمرأة أن تمشي وحدها؟ هل يجوز أن نستمع إلى الموسيقى؟ هل يجوز أن نأكل من يد غير المسلم؟ سمع هذه الأسئلة تتردد بصيغ وتعابير مختلفة كل يوم، وكان يعرف أن شيئاً ما يتغير في المدينة، ليس الاحتلال وحده، ولا الفقر وحده، بل تلك السلاسل غير المرئية التي تُلقى على العقول دون أن يراها أحد" (صفحة 249).
مواجهة المحو
يحيل السرد عبر إضاءته وتوثيقه لتاريخ الوجع الفلسطيني، إلى محاولة الكاتبة لمواجهة المحو الممنهج الذي يمارسه الاحتلال، كما يعكس رغبة عميقة لديها في التمسك بالوطن ضد محاولات السلب والتهويد، مما دعمته بالاستمرار في وصف فلسطين التاريخية واستدعاء معالمها القديمة على طول خط السرد. وكان من أبرز تلك المعالم التي يعود بعضها للعهد العثماني، وبعضها للعهد الأيوبي، وبعضها الآخر للعهد الإسلامي الأول، قلعة يافا ومحطة قطار القدس وحارة النصارى وسينما الحمرا وشارع السلطان سليمان ومسجد عمر بن الخطاب والمكتبة الخالدية وجورة العناب وحارة الشرف ومستشفى الهوسبيس وغيرها. كذلك عمدت التكروري لتوظيف تقنيات الوصف بهدف نقل صورة حية للأماكن والأسواق والحلوى والأطعمة والرائحة، وزادت من أثر تلك الصورة لغة شاعرية، مسكونة بشحنات كثيفة من العاطفة، "حين فتح النافذة في غرفة عامر، غمرته رائحة المدينة. رائحة لا تشبه أي شيء آخر، مزيج من التراب المبلل بعرق أزمنة كثيرة، روائح الخبز الطازج الخارج للتو من الأفران الحجرية. بخور الكنائس ورائحة النعناع الذي يطحن في الأزقة، التاريخ الذي يسيل في الهواء والمدينة تتنفسه" (صفحة 104).
وبين ما رصدته الكاتبة من مآسٍ وأوجاع، كانت لانتصار الحب، بعد سلسلة من الإخفاقات، دلالات رمزية، ربما تحيل إلى تحدٍّ واحتجاج على واقع قاسٍ أو إلى المقاومة في أبسط صورها، وربما كانت إجابة عن سؤال، "كيف ينجو الإنسان وسط الكارثة؟".