ARTICLE AD BOX
تتحول آلة الحرب التي تنعش الاقتصاد الروسي منذ نحو ثلاث سنوات إلى مصدر قلق ليس فقط لخصوم موسكو، وإنما أيضاً للكرملين ذاته، إذ يدمن الاقتصاد مع مرور الوقت النمو القائم على محركات إنتاج الأسلحة وتجنيد الشباب برواتب كبيرة، ما يجعل الرئيس فلاديمير بوتين في مأزق حقيقي لتسوية الصراع سريعاً مع أوكرانيا، إذ سيكون تفكيك حشده العسكري أكثر صعوبة وسيكون من شبه المستحيل خفض الإنفاق العسكري، وهو ما يفسر بالنسبة إلى البعض استمرار الحرب رغم ضغوط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهائها.
في المراحل الأولى من الحرب التي اندلعت في فبراير/ شباط 2022، هيأ الرئيس الروسي البلاد لصراع طويل، فقد أعاد تنظيم الاقتصاد لإنتاج أعداد قياسية من الدبابات ومدافع الهاوتزر، بينما استخدم مكافآت كبيرة تصل إلى راتب عام كامل لتكوين جيش ضخم. وفي مرحلة ما، كان أكثر من ألف مجند ينضمون يومياً للقتال.
وأنقذت هذه الزيادة موسكو من الخسائر الأولية التي تكبدتها بعد فشلها في الاستيلاء على كييف بسرعة قبل ثلاث سنوات. وتُعدّ نجاحات روسيا على الجبهات الأمامية في أوكرانيا سبباً رئيسياً لعدم استعداد بوتين حتى الآن للانضمام إلى جهود السلام التي يبذلها الرئيس الأميركي، بينما يخشى بعض جيران روسيا من أن نجاح آلة الحرب التي تُحرك اقتصادها الآن يعني أنه لن يفعل ذلك أبداً وحتى لو توقفت الحرب مع أوكرانيا فقد تمتد إلى جبهات أخرى.
مهمة صعبة لتفكيك الحشد العسكري
ويبدو أن آلة الحرب هذه باتت تقلق الجميع بمن فيهم الكرملين ذاته. فحتى عندما يكون بوتين مستعداً لإحلال السلام، قد يكون تفكيك حشده العسكري مهمة أكثر صعوبة. وقال ألكسندر كولياندر، الزميل البارز في مركز تحليل السياسات الأوروبية: "من الضروري للغاية أن تواصل روسيا الاعتماد على الصناعة العسكرية، لأنها أصبحت محرك النمو الاقتصادي". وأضاف كولياندر متحدثاً لصحيفة وول ستريت جورنال: "لفترة من الوقت، سيكون من شبه المستحيل على روسيا خفض الإنفاق العسكري".
وحظيت صناعة الأسلحة الروسية بمليارات الدولارات بصفة حوافز في السنوات الأخيرة لتعزيز خطوط الإنتاج والحفاظ على عملها بسرعة فائقة على مدار الساعة، وقد أدى تدفق الأموال إلى رفع الأجور، وعزز مستويات المعيشة المرتفعة لآلاف الروس في المناطق النائية الأكثر فقراً في البلاد.
وإذا انتهت الحرب في أوكرانيا، فإن بعض جيران روسيا يخشون من أن يُعاد تركيز اقتصاد روسيا الحربي عليهم. وفي دول البلطيق، يناقش المخططون العسكريون الإستونيون بحذر احتمال امتداد الحرب إلى أراضي حلف شمال الأطلسي. وفي كازاخستان، يراقب المحللون عن كثب أي إشارات إلى أن روسيا قد تُقدم على خطوة نحو شمال البلاد، حيث لا تزال تعيش جالية روسية كبيرة، وفق تقرير للصحيفة الأميركية.
تنبع هذه المخاوف جزئياً من الاعتقاد بأن الكرملين يُفضل إبقاء عشرات الآلاف من الجنود يقاتلون على جبهة أخرى بدلاً من إعادة رجال مُحنّكين في المعارك ومُصابين بصدمات نفسية إلى أوطانهم. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتبر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين عودة المحاربين القدامى تهديداً، فأرسل العديد منهم إلى معسكرات العمل القسري (الغولاغ) للتخلص من الضغوط الداخلية التي قد يُسببونها.
قلق من عودة المحاربين
اليوم، من المُرجّح أن يشهد أي سلام، إذا حصل، تسريح مئات الآلاف من الجنود في أوكرانيا، وخاصة أولئك الذين وقّعوا عقوداً قصيرة الأجل، وإعادتهم إلى الحياة المدنية تعني تراجع الأجور وتباطؤ النمو الاقتصادي. وقال فولوديمير إيشينكو، من جامعة برلين الحرة: "لن تكون فكرة جيدة خفض هذه الأجور بشكل جذري أو في وقت قصير جداً.. ليس من الحكمة أن تُخيّب الدولة آمال الرجال المُسلّحين". إذا انتهى القتال في أوكرانيا، سيظل الجيش الروسي بحاجةٍ إلى الرجال، وستواصل صناعة الأسلحة إنتاج الأسلحة والمركبات اللازمة لتعويض المخزونات السوفييتية المفقودة على خط المواجهة، ولكن بوتيرة أبطأ مما كانت عليه خلال الحرب. وقد يُثير فقدان الوظائف في خطوط الإنتاج، إلى جانب الركود الاقتصادي المتزايد المحتمل، بعض السخط بين أولئك الذين رأوا أن الحرب جلبت أكبر إعادة توزيع للثروة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.
وقال رسلان بوخوف، رئيس مركز تحليل الاستراتيجيات والتقنيات في موسكو: "بدون أزمة وجودية مثل الحرب في أوكرانيا، سيكون من الصعب تبرير الاستمرار في ضخ الأموال في صناعة الدفاع بالمعدل الحالي.. وبوتين حساس للغاية تجاه ما يفكر فيه الناس وما يريدونه".
هناك بالفعل دلائل على أن الدعم الناتج عن الحرب وارتفاع الأجور ومستويات المعيشة بدأ يستقر. ويضيف انخفاض أسعار النفط مؤشراً آخر إلى عدم اليقين بشأن المستقبل. وتدرس بعض شركات صناعة الأسلحة فكرة تصدير فائض إنتاجها والعودة إلى ذروة اعتبار روسيا ثاني أكبر مُصدّر للأسلحة في العالم، وهي المكانة التي كانت تحتلها قبل اندلاع الحرب. لكن المحللين يستبعدون حدوث ذلك في ظل صناعة فقدت بالفعل حصتها السوقية في آسيا وأفريقيا.
وفي بعض النواحي، تجد روسيا نفسها في وضع مشابه للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أو ألمانيا النازية قبل الحرب، عندما كانت صناعات الأسلحة لديها هي محركات النمو. ولكن على عكس الولايات المتحدة، حيث امتدت التطورات العسكرية إلى القطاع المدني، من غير المرجح أن تُحقق صناعة الدفاع الروسية اختراقات تكنولوجية تُعزز النمو المستدام. ويقول كولياندر: "عندما تقلّص الحوافز المالية، يتعين عليك أن تكون حذراً للغاية.. هناك الكثير من الناس الذين يرغبون في استمرار هذه الدوامة".
الصناعات المرتبطة بالحرب تقفز 60%
وبدا الاقتصاد الروسي، الذي جرى فرض عقوبات غربية واسعة عليه، صامداً حتى بعد مرور أكثر من عامين على الحرب، مُسجلاً نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.6% العام الماضي (2024)، حيث دفعت الأنشطة المرتبطة بالحرب الاقتصاد إلى الصمود. كما حسّنت الحرب أحوال بعض الفقراء الروس، وهو ما يعقّد أي حسابات حول كيفية إنهائها، وفق تقرير آخر لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أمس الأربعاء.
وكتب باحثون في مركز أبحاث السياسات الاقتصادية في لندن في مايو/ أيار الماضي: "يتجه الاقتصاد الروسي تدريجياً نحو العسكرة". وأضافوا: "لقد استفادت بعض القطاعات وبعض المناطق من اقتصاد روسيا الجديد المُوجّه نحو الحرب". ووفقاً لباحثي المركز، قفز إنتاج الصناعات المرتبطة بالحرب بنسبة 60% بين خريف عام 2022 وربيع عام 2024. وظل إنتاج الصناعات التحويلية في القطاعات الأخرى ثابتاً خلال الفترة نفسها. وأتاحت الحرب للكثيرين حراكاً اجتماعياً تصاعدياً لم يكن متاحاً في العقود السابقة من إعادة اندماج روسيا في الاقتصاد العالمي.
وسجّلت الأسر في المناطق التي تشهد ارتفاعاً في التجنيد العسكري ودائع أعلى منذ بدء الحرب، وفقاً لتقرير منفصل صادر عن بنك فنلندا نُشر في يناير/ كانون الثاني الماضي. وأظهر البحث أن الودائع المصرفية نمت بنحو 30% بين أغسطس/ آب 2022 والشهر نفسه من عام 2023 في المناطق الفقيرة، حيث انضم المزيد من الرجال إلى الحرب، متجاوزة بذلك نمواً بنسبة 20% في مناطق أخرى.
ويوم الثلاثاء الماضي، قال أندريه ياكوفليف، الخبير في مركز ديفيس للدراسات الروسية والأوراسية في جامعة هارفارد الأميركية، لإذاعة أوروبا الحرة، إن زيادة الثروة قد تُصعّب على الكرملين تقليص حجم الحرب في أوكرانيا، لأن ذلك سيعني أيضاً تباطؤاً في الإنتاج العسكري. وأضاف ياكوفليف أن الجنود من المناطق الفقيرة، الموجودون الآن في الخطوط الأمامية، قد يعانون من انخفاض الدخل نظراً لقلة الفرص المتاحة لهم في حال عودتهم إلى ديارهم.
وقدّرت وزارة الدفاع البريطانية في وقت سابق من مايو/ أيار الجاري أن نصف مليون جندي روسي قُتلوا أو جُرحوا منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، وهذا إلى جانب هجرة الأدمغة، ما يُساهم في أزمة في القوى العاملة في روسيا، وهو ما يدفع الجيش لصرف رواتب أعلى من رواتب صناعات النفط والغاز المربحة.
ويُقدّم الجيش الروسي للجنود المتعاقدين مكافأة تسجيل وطنية قدرها 195 ألف روبل (حوالي 2200 دولار)، بينما تبدأ الرواتب من 210 آلاف روبل شهرياً. في المقابل، فإن العاملين في قطاع النفط والغاز الروسي، ذي الأجور المرتفعة نسبياً، حصلوا على حوالي 125.2 ألف روبل راتباً شهرياً في أول شهرين من العام، وفق وكالة بلومبيرغ.
