ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">نورمان ميلر (1923 - 2007) (أ ب)</p>
بفارق يزيد على ثلث قرن، أصدر الكاتب الأميركي نورمان ميلر بين مؤلفات لا تعد ولا تحصى، كتابين يحملان عنوانين متقاربين إلى حد كبير: أولهما "لماذا نحن في فيتنام؟" عام 1967، والثاني "لماذا نخوض حرباً؟" عام 2003، بيد أن الكتابين لا يتشابهان كما قد يستخلص المرء، حتى وإن لم يكن أي منهما رواية من النوع "التوثيقي" المعهود عن صاحب النص البديع عن مارلين مونرو، أو عن إعدام المجرم غاري غيلمور. ففي النهاية نعرف أن ميلر تأرجح طوال مساره الكتابي الذي تجاوز الـ60 عاماً، بين أنواع أدبية عدة لكنه كان من "اخترع" ذلك الأدب الذي عرف بـ"الصحافة الجديدة"، إلى جانب رفاقه الألداء دائماً، ترومان كابوتي وتوم وولف، وحتى غور فيدال إلى حد ما. وهو أدب نهل من غنى المجتمع والتاريخ الأميركيين نصوصاً تأرجحت، بدورها، بين الروائي التخيلي والتوثيقي المفرط في واقعيته. ومع ذلك لا بد لنا من أن نشير، بداية هنا، إلى أن الكتابين اللذين نتحدث عنهما هنا يبدوان شديدي البعد من ذلك التأرجح بالنظر إلى أنهما يخوضان السياسة بصورة مباشرة في زمنين رأى الكاتب أن كلاً منهما يتسم بإلحاحية تمنعه من أن يستمهل الزمن. فهو دبج الكتاب الأول تحت وطأة اشتداد حرب فيتنام التي ينبغي أن نعرف أن الكاتب لم يعدها حرباً بل عدواناً أميركياً على شعب يبعد موطنه آلاف الكيلومترات، ليس فقط عن أميركا، بل عن أية مصالح هناك للشعب الأميركي. ومن هنا كان العنوان سؤالاً مباشراً ينطبع باحتجاجية صارمة حول ما الذي يفعله الأميركيون هناك في فيتنام.
السؤال نفسه بعد حين
طبعاً لم تجب السلطات الأميركية عن سؤال ميلر يومها، لكن الشبيبة تلقفت كتابه وأسئلته الحارقة جاعلة من كل ذلك أيقونة في نضالات سنوات الـ60 والـ70 يوم كانت أميركا لا تزال واعدة ومناضلة، لا يفكر أي من شبانها بالمجيء باليمين المتطرف إلى السلطة، حتى ولو أن غالبية الشعب الأميركي قلقت من الأفكار الجذرية، فأتت إلى البيت الأبيض بواحد من أكثر الرؤساء المتطرفين يميناً في تاريخها: رونالد ريغان. وإذ سيطر هذا الأخير بأفكاره التبسيطية على مقدرات الشعب الأميركي بما تلا ذلك من انتهاء لحرب فيتنام وما نتج منها، نسي سؤال ميلر وكتابه لمصلحة أدبه الكبير، الذي لم يقل أبداً في مشاكسته عن كتاباته السياسية، وشغلت الساحة "نجاحات" ريغان الاقتصادية وما شابه ذلك، في وقت راح الشعب الأميركي يعد نفسه بألا يعود إلى الحروب ثانية، لكنه عاد بعد ثلث قرن، من دون أن يكون قد بارحها تماماً وإن بالواسطة في هذا المكان أو ذاك. ولكن عام 2001 عند مفتتحات الألفية الجديدة، كانت العمليات الإرهابية في نيويورك مستدرجة أميركا إلى الحرب من جديد. وكانت النتيجة حروب الخليج التي هيمنت على عصر جورج بوش، أباً وابناً، وأتت إلى سدة الحكم من جديد بـ"حربجيين" يمينيين متطرفين، كما كانت الحرب في فيتنام، لكن الفارق كان كبيراً بين الحالتين. ففي المرة الأولى كانت الحرب عبثية غير مفهومة فجيء بريغان لمحو تبعاتها، أما هذه المرة فالحرب أكثر وضوحاً، ومن ثم أفدح شراً، إذ استفادت من ظروف "فرضت عليها" كما يرى ميلر في كتابه الثاني الذي يتساءل فيه عن الدوافع التي حدت ببلاده إلى خوض حرب جديدة، بدت، بالنسبة إليه، أكثر خبثاً وماكيافيلية من تلك السابقة، أو هذا ما يقوله لنا في الكتاب الذي نشير إليه هنا، بل لعل الأمور تبدو أكثر وضوحاً وشراً عبر مقارنة، ولو تبسيطية، بين حرب أولى انطبعت ببعد أيديولوجي، وحرب ثانية يفيدنا ميلر بكونها قد اتسمت ببعد مركنتيلي اقتصادي يتعلق بالعولمة، من ناحية، وبانهيار المعسكر الاشتراكي من ناحية ثانية، وتوجه الولايات المتحدة للهيمنة متفردة على العالم من ناحية ثالثة.
لعبة مصطلحات
ومن هنا طبعاً، إذا كان سؤال ميلر في عنوان الكتاب الأول يتعلق بمنطقة محددة من العالم (فيتنام)، ها هو في الكتاب الثاني ينطرح من حول الحرب بصورة عامة ومن حول الـ"نحن"، أي معشر الأميركيين بصورة خاصة. ولئن كان ميلر قد صاغ سؤاله حول فيتنام صياغة تبدو روائية إلى درجة أن معلقين قالوا إنها تستحق أكثر من عنوان "حفلة صيد في ألاسكا"، فإنه لم يكلف نفسه، هذه المرة، عناء اللف والدوران، بل تطرق إلى موضوعه مباشرة مستنداً إلى قوة أسلوبه الصحافي، وهو أسلوب كان على أية حال، في خلفية النصوص الثلاثة التي تشكل هذا الكتاب، أسلوب مباشر يتتبع، من دون أية هوامش أو تراجعات زمنية، تعليقات ميلر خلال الأشهر التالية لكارثة تدمير مبنيي مركز التجارة العالمية في نيويورك، حين كان النص الأول حواراً طويلاً أجراه محرر صحافي نيويوركي مع ميلر، ويتمحور، تحديداً حول البرجين ودلالة تدميرهما وسقوط آلاف الضحايا كنتيجة لذلك، والثاني محاضرة ألقاها ميلر، في العام نفسه في سان فرانسيسكو، حول الموضوع ذاته. أما النص الثالث والأكثر غرابة ومشاكسة فكان عبارة عن مقابلة طويلة كانت أجرتها مع ميلر، وحول الموضوع نفسه، واحدة من المطبوعات الأكثر يمينية ومحافظة في أميركا، "المحافظ الأميركي"، وهو نص صحيح أن ميلر آثر نشره في كتابه كما هو، لكنه ذيله بدزينات عدة من الملاحظات والهوامش التي عززت من قدر المشاكسة الذي به، وجابه به ميلر استفزازية الأسئلة التي طرحها محرر المطبوعة المنتمي إلى أقصى اليمين، بول بوكانان. وهي ملحقات تتسم بالسخرية من الأسئلة قبل أي شيء آخر، وفيها يذكر نورمان ميلر قراءه بأنه اعتاد، طوال حياته، ألا يتردد لدى اقتحامه فضاءات الأعداء عن الإقدام... "وها أنا أفعل ذلك اليوم من دون تردد أو مراعاة، كما ترون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع بين لاهوتين
منذ مفتتح كتابه لا يفوت ميلر إخبارنا أن "الصراع" الذي يتحدث عنه هنا، ليس في حقيقته، سوى صراع بين "لاهوتين غير أصيلين" (لاهوت التطرف المرتدي عباءة الإسلام، ولاهوت النزعة الأميركية المحافظة)، غير أنه إذ يحدد ذلك، ينتقل من فوره إلى رصد تغير أساس "يطبع اليوم هذا النوع من الصراع"، وفحواه تمركز الثروات وتفاقمها بصورة خلقت ما يسميه الكاتب "الحاجة التي لا رادع عنها للانتقال من الديمقراطية إلى الإمبراطورية". وميلر يعزو هذه الحاجة إلى ما يمكن رصده من تلك النزعة "الأميركية" القائمة على "غزو الشركات والهيئات الضخمة للحياة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية"، وهو أمر أتاحته مبادرات تحويل طبقات وفئات بأسرها إلى مجموعات من الحمقى تهيمن على مجتمع الاستهلاك الذي يتكون من معظم أفراد الطبقات الوسطى. وفي هذا المضمار، بالذات، تبدو طريفة استعادة ميلر معركته القديمة ضد... البلاستيك الذي يعتبره سمة أساسية من سمات الزمن الاستهلاكي، ورمزاً أساساً من رموز اختفاء الأصالة حتى في حياتنا اليومية، أما العبارات المركزية التي يقول ميلر إنه يود أن يزعق بها في أذن الأميركيين ففحواها أن "الديمقراطية، وعلى عكس ما يتصورون، لا يمكنها أن تتعايش مع الأمان الذي يتطلعون للحصول عليه"، وهو يقول، تحديداً في هذا الصدد، إنه "لئن كانت الأعمال الإرهابية في نيويورك قد أعطتنا درساً جوهرياً، فإنه هذا الدرس بالتحديد"... وهو ما يدفعه إلى أن يؤكد "آسفاً، أن أكثرية الشعب الأميركي تبدو اليوم مستعدة للتضحية بكثير من حريتها مقابل الحصول على الأمن والأمان... وهو ما يدفع بلادنا دفعاً نحو زمن يمكننا أن نسميه زمن ما قبل الحكم التوتاليتاري"، وهو ما يدفع نورمان ميلر إلى إبداء حزنه لكونه اليوم ينتمي إلى بلد كان يعتبر في الماضي "أيقونة للحرية وللديمقراطية".
ويبقى، أخيراً هنا، أن نلفت إلى أن كتاب ميلر هذا يبدو وكأنه أجاب مسبقاً عن السؤال الذي طرحه كثر منذ مجيء الرئيس دونالد ترمب إلى الحكم وحتى في ولايته الأولى، عما يجعل مثل هذه الظاهرة تحدث بل تتفاقم في بلد عرف رؤساء من طينة أبراهام لينكولن وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي، وصولاً إلى بيل كلينتون وباراك أوباما، ظاهرة تدفع إلى التساؤل مع شعراء البيت: أين صارت أميركا القيم؟ ولماذا يبدو العقل الأميركي صامتاً اليوم وحتى إزاء ما يحدث لجامعة "هارفرد" التي كانت، دائماً، رمزاً للتقدم الفكري الأميركي؟