سرير بروكوست السوري

20 hours ago 3
ARTICLE AD BOX

المبدأ الأساسي في الاجتماع البشري هو انفتاحه على التعدد: التعدد الفكري، والتعدد في الموقف من العالم الحي، ومن قضايا الوجود. ولا تخرج الديانات والمذاهب الدينية عن هذا المبدأ. ومن الراجح أنه كلما خالفه البشر نشبت النزاعات والحروب، لأن ثمة من يرى أن رأيه الشخصي أو الجمعي، أو دينه أو مذهبه، هو من يمتلك الحقيقة والصواب في الحياة.

والمشكلة أن رأياً عاماً من هذه الطبيعة الاستبدادية ذات البعد الواحد، سرعان ما يتحول إلى حكم قضائي يتبناه الجمهور، دون التفكير بأنه رأي من بين آراء أخرى تحاول أن ترى الواقع، أو الفكرة، أو البيان، أو الدين، أو الطائفة، أو الرواية، أو القصة، أو الفنون عامة من وجهة نظر مختلفة، ليست عدوة، أو خصماً. وفي لحظتنا الراهنة يمكن للتجييش الطائفي، والتحريض على قتل الآخر، أن يكون الأكثر تمثيلاً على سيطرة منطق الاستبداد الموروث في بلادنا من العهود السابقة. ولا يقف في مواجهة هذا الميل القاتل سوى حياة تؤمن، وتتقيد، بشروط الديمقراطية.

لكن اللافت أن أكثر ما يغيب اليوم عن الوضع السوري هي الديمقراطية، واللافت أكثر أنها مطلباً وشعاراً، هي التي قادت ثورة السوريين طوال السنوات الماضية، وكانت، إلى جانب الحرية، وهي صنو آخر لها، رافعة النضال السوري.

أفضل من يمثل الحالة السورية اليوم، هو اللص اليوناني بروكوست

تغيب الديمقراطية عن النقاش النظري. يغيب الحوار المعلن الصريح الذي يسأل الآخر عن حقيقة موقفه من وجوده. والخشية من أن تكون كلمتا الديمقراطية والحوار وتطبيقاتهما اللتان ظلتا حلما للسوريين قد دفنتا. يتحول الرأي الشخصي إلى أيقونة محرّمة، وتدان جميع الآراء الأخرى، ويمكن أن تجرّم لأسباب مخترعة، يعتبر أصحاب هذا الرأي أن سلوكهم هم وحدهم، هو الذي يمنح العالم المشروعية. 

وتدور الحرب الفكرية اليوم حول الواقع، إذ يدّعي كل محاور، أو جهة، أنه يمتلك الواقع، وأنه يفهم الواقع جيداً، وأنه، استناداً إلى هذه الملكية، هو الوحيد القادر على رسم السياسات الصحيحة. وهكذا يوصف الخصم بأنه غير واقعي، ويمكن تدبير مجموعة من الوصفات التي تخرجه من جبهة الحليف الذي كان حاضراً في الماضي القريب حيث النضال ضد النظام السابق، إلى موقع العدو.  

ليس مروعاً أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي منابر تشهد خطابات التحشيد أو التحريض الطائفي والسياسي وحسب، بل أن يكون من بين المشاركين في تلك الحملات الشنيعة صحافيون وكتاب يستخدمون سلطتهم الثقافية التي نفترض أنها يجب أن تدافع عن الحوار والحق والسلام، لدفع السلطة السياسية الحاكمة إلى ممارسة العنف ضد خصومهم الجدد. 
 
أفضل من يمثل الحالة السورية اليوم، هو اللص اليوناني المحترف بروكوست الذي اعتاد أن يقصّ أجساد ضحاياه كي تناسب سريراً يملكه، إذا كانوا طوال القامة، أو يمط أجسادهم، حتى تناسب السرير ذاته، إذا كانوا قصار القامة. والظاهر أن الرجل المنبوذ في الكتب، إذ لم أجد من يمتدح هذا الفعل المشين الذي كان يقوم به، قد تغلغل في الحياة العامة لثقافتنا، حتى بات شاهداً على التصفيات التي تجري للخصوم، على قاعدة طول الجهة أو الشخص المعني، أو قصره، قياساً إلى السرير السوري المسيطر. 


* روائي من سورية

Read Entire Article