ARTICLE AD BOX
إعادة الإعمار، والتطوير العقاري، والتحوّل الحضري، مصطلحات عابرة للسياسة، والاقتصاد، والتنمية البشرية، بمندرجاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومتداخلة في ما بينها أحياناً، لكنها جميعها تندرج تحت الاصطلاح الأشمل "التنمية البشرية"؛ فإذا كان اصطلاح إعادة الإعمار يستخدم في الفترات التالية للكوارث، ومنها الحروب، يبقى مصطلح التطوير العقاري وتجديد الأبنية، لأسباب اقتصادية وتجارية، يخصّ أصحابها، وينعكس ذلك على الاقتصاد الوطني، بينما يشمل التحوّل الحضري كل ما سبق، سواء تلا ذلك حرباً ما، أو كان لمواجهة كوارث محتملة، كالزلازل، بإعادة بناء الأبنية القديمة تحسّباً من حدوث زلزال عالي الشدة لا تقاومه الأبنية المفتقدة للعناصر الهندسية المطلوبة في مثل هذه الحالة.
كانت سورية، حتى ما قبل عام الثورة (2011)، في حاجة لإعادة إعمار، وتطوير عقاري، وتحتاج الآن إلى التحول الحضري العاجل، فالنظام الأسدي هدم البلاد بقوة تفوق أي شدّة للزلازل على مقياس ريختر.
مدرسيّاً، نبني المصنع أولاً، أم نبني الطريق إليه؟ من شدّة تزاحم الأولويات في سورية، تبدو الإجابة عن هذا السؤال مستحيلة، فالبلاد في حاجة لكل شيء، وكل عرض سيجد له طلباً، من الطعام والشراب، إلى الألبسة، إلى الخدمات الطبية والدواء، وقبل كل شيء أهم بندين، الأمن والتعليم.
من وجهة نظر غير بعيدة عن الحقيقة، وبشيء من الإيمان بنظرية المؤامرة، كان لا بد من التدمير لتصبح تكلفة إعادة الإعمار مجال تسابق بين عشرات الدول، ومئات الشركات. وما يقال هنا يشبه ما يقال عن تجار السلاح الذين يشعلون حرباً لتصبح بضاعتهم مطلوبة بشدة... كان التدمير الممنهج الذي مارسه النظام الأسدي، في النتيجة، بالوكالة عن شركات التطوير العقاري، وعن الشركات المنتجة لكل ما يتعلق بالكهرباء، من أجهزة وكابلات، وأبراج، ومحولات، وعن المموّلين الذين يربحون في كل الأحوال، فهم يقرضونك المال لكي تشتري منتجاتهم، من إسمنت وحديد للبناء، إلى مفروشات، وإكسسوارات،... إلخ. حتى إن النظام الأسدي في حساباته المستندة إلى القضاء على الثورة كان يِعِد الدول الداعمة وشركاتها بمنحها عقود إعادة الإعمار مكافأة لها على مواقفها الداعمة له خلال 15 عاماً من الحرب المدمّرة، ولا سيما روسيا، وإيران، والصين.
كان لا بد من التدمير لتصبح تكلفة إعادة الإعمار مجال تسابق بين عشرات الدول، ومئات الشركات
الآن، وقد اقترب موعد رفع العقوبات المفروضة على سورية، والشركات استعدّت بملفاتها للحصاد، يبدو تطوير مرفأي طرطوس واللاذقية وإعادة تشغيلهما، أو بناء برج ترامب، أو إنشاء مشروع مترو في دمشق، مجرّد لقمة صغيرة في أفواه شركات كبيرة، خصوصاً بالقياس إلى حجم البنية التحتية المتهالكة في سورية، جرّاء الحرب، وجرّاء حكم المافيا الأسدية طوال 55 عاماً، إذ مانعت المافيا الأسدية قيام أي مشروع عصري في سورية إلا بالمشاركة مع النظام وأزلامه، ممن اشترطوا على المستثمرين أخذ حصة في أي استثمار من دون أي مقابل (!)...، فعطّلوا إنشاء مترو دمشق منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كما ساهموا في إحجام المستثمرين السوريين وغير السوريين عن الدخول في دورة الاقتصاد السوري الذي كان دائماً أحوج ما يكون لكل أنواع الاستثمار.
وإذا كتن هذا حال النظام المخلوع، فإن حال النظام الحالي لم تُعرف بعد، وإن كانت النيات تشير إلى نظافة الكف، لكن هذه وحدها لا تكفي لبناء بلد حاله حال سورية. الخشية هنا من أن تُمنح المناقصات استنسابيّاً، أو بشبهة تفتقد إلى الشفافية، وبالانحياز لشركاتٍ من دول معينة بناء على اعتبارات يغلب فيها السياسي المعيار الاقتصادي.
سورية التي في حاجة إلى كل شيء، وبشكل عاجل وإسعافي، في حاجة أيضاً إلى الأبراج التجارية، مع مراعاة الخشية على المدن القديمة، وخصوصاً دمشق، باختيار مناطق بعيدة نسبيّاً عن أسوار دمشق القديمة، ففي المدينة القديمة، ومحيطها القريب، أينما حفرت ستجد طبقة من مدن أقدم مما يظهر لنا اليوم من المدينة... الأبراج مشاريع تجارية عصرية ومهمة، بدءاً من كونها قاطرة تنمية تمتصّ عشرات آلاف فرص العمل من قطاعات مختلفة في مرحلة التأسيس والبناء. ثم إنها تحرض خدمات تابعة تستفيد منها قطاعات كثيرة في كل مراحل البناء والتشغيل. ولاحقاً، عند بدء التشغيل، وبالنظر إلى التوقّعات من حجم هذه الأبراج وارتفاعها، ونوعية الخدمات التي تقدّمها، ستوفر آلاف فرص العمل بشكل مباشر، أو غير مباشر، هذا عدا عن المكاتب التجارية لشركات إقليمية وعالمية ستستغل شهرة هذه الأبراج للترويج لعملها في سورية، وفي الإقليم، لتعزيز مكانتها التجارية، وعقد سلسلة صفقات تُولد سلاسل من صفقات تساهم في تشبيك الاقتصاد السوري مع اقتصاد الدول المحيطة، ومع الاقتصاد العالمي، بالضرورة.
سورية تحت الشمس هذه المرّة، بسكانها، وعقاراتها الآدمية، وبشمسها التي قد تكون فرصةً اقتصادية لكل السوريين
في هذه المرحلة، تبدو الفرصة السورية مقترنةً بالرشد الاقتصادي، وبالشفافية، وبالتشريعات المناسبة للبلاد، وللمستثمر الوطني، أو الأجنبي، مغرية تماماً للمستثمرين، فحجم استيراد مواد البناء بالنسبة للمستثمر سيمكّنه من الحصول على أسعار تفضيلية مع استدامة شبكة التوريد إلى المورّد. كما أن انخفاض تكلفة اليد العاملة مقارنة مع الجوار، والإقليم، والعالم، ستعيد اليد العاملة المهاجرة إلى سورية، وقد تحتاج البلاد إلى استقدام كل أنواع اليد العاملة الماهرة من دول أخرى، نظراً إلى تنوّع مشاريع البناء التي تحتاجها البلاد، ولحجم (واستدامة) هذه العملية من البناء التي ستستغرق سنوات طويلة من العمل المتواصل. سيولّد هذا الإغراء للمستثمر سلسلة من الاستثمارات التابعة، فالآلات الثقيلة ستدشّن مراحل التأسيس، وستستهلك ملايين الأطنان من الطاقة، والأبنية ستستهلك مئات ملايين الأطنان من الحديد والإسمنت والخشب والمعادن والزجاج؛ وكم من مستفيد في سلسلة متوالية من العمليات بعضها إلى أجل، وبعضها مستمرٌّ إلى أجل طويل. بالطبع، المستفيد الأكبر والأول هو مستحدث المشروع، ومن ثم الدولة، وما بينهما سوريون كثيرون ممن عملوا، أو ساعدوا، أو استفادوا من هذه المشاريع بشكل مباشر، وغير مباشر، وممن ستنعكس عليهم أموال الضرائب لتحسين الخدمات البلدية، وتوفير جودة أعلى في التعليم، والصحة، وغيرها.
عصب تحويل كل تلك الآمال إلى واقع هو المال، ممثلاً في البنوك، والخاصة منها تحديداً. وتستعدّ هذه البنوك لطي صفحة طويلة من الصبر، إذ حولت شركات تحويل الأموال، وشركات الصرافة، إلى ما يشبه البنوك، بالالتفاف على العقوبات المفروضة على البنوك، كون تلك الشركات لا تحتاج نظام سويفت، فاشتغلت بـ"الأسود"، حسب التعبير الدارج، واستفادت وأفادت النظام الأسدي، خصوصاً أن تجارته واقتصاده أكثر سواداً بالاعتماد على تجارة الكبتاغون.
الاقتصاد السوري، ممثلاً في المصرف المركزي، سيشجع البنوك على القيام بدورها خدمة للمستثمرين القادمين، فور رفع العقوبات. كما أن الدول المانحة، والداعمة للنظام السوري الجديد، ستمنح، على الأغلب، سورية شروطاً ائتمانية متساهلة، خاصة إذا تلقى الاقتصاد السوري جرعة مالية كبيرة على شكل ودائع من دول خليجية، فمن شأن وديعة بحجم عشرة مليارات دولار، مثلاً، أن تشكل مصدر ثقة للمستثمرين، والمقرضين، والمورّدين، ما يُسهم في استدامة تدفق الأموال، واستدامة عمل مشاريع البنية التحتية، ومن ثم إعادة الإعمار.
سورية التي في حاجة إلى كل شيء، وبشكل عاجل وإسعافي، في حاجة أيضاً إلى الأبراج التجارية، مع مراعاة الخشية على المدن القديمة
قد تجد سورية كفرصة عقارية عملاقة تفسيرها الأكثر مباشرة في المثالين التاليين: لبنان منذ بدايات الحرب اللبنانية يفتقد إلى الكهرباء. والشائع أن اللبناني يدفع فاتورة "كهربة الدولة"، وفاتورة الاشتراك في المولدات الخاصة التي يملكها أقطاب الطوائف من السياسيين اللبنانيين. وخلال خمسين سنة، لم تستطع الدولة اللبنانية إزاحة عبء الفاتورتين عن المواطن اللبناني لأسباب تتعلق بنفوذ أصحاب تلك المولدات. المثال الثاني انتشار استعمال الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء في سورية، خلال السنوات الماضية، بتكلفة تصل إلى ألفي دولار للاستعمال المنزلي، وبأضعاف هذا المبلغ للاستعمال الصناعي. في المثالين، سنجد أن الفرصة كبيرة في الاستثمار في القطاعين في سورية ولبنان. ولو أن الدولة اللبنانية صاحبة قرارها لجرى حل مشكلة الكهرباء فيها منذ عقود. أما في سورية، فالمشكلة في طور الحل، لكن بعد أن دفع السوريون، بالمفرق، مبلغاً يقرب من خمسة مليارات دولار، كأفراد، لتأمين الكهرباء في منازلهم. هذا بافتراض أن نصف عدد البيوت السورية اعتمدت هذه الطريقة. بالطبع، قد يزيد المبلغ أو ينقص، لكنه، في كل الأحوال، يكفي لإنشاء ما لا يقل عن ست محطات عملاقة لتوليد الكهرباء، وحل مشكلة الكهرباء جذرياً.
وهنا أيضاً فرصة سانحة، لكن للدولة والأفراد معاً هذه المرّة، فأجهزة توليد الكهرباء للمنازل من الطاقة الشمسية شركات صغيرة جدّاً، ولكن مجموع هذه الشركات إن جرى ربطه بشبكة توزيع الكهرباء، وهذا متاحٌ باشتراطات تقنية، سيحول المنازل إلى محطات كهرباء، بحيث يبيع المواطن الكهرباء للدولة، فتزداد القدرة الكهربائية في محطات التوزيع، ليستفيد منها النصف الآخر من السوريين الأشد فقراً، بينما تكون الدولة قد حصلت على كهرباء رخيصة، من دون أن تستثمر أي أموال تُذكر في الحصول على طاقة إضافية.
من هنا، سورية تحت الشمس هذه المرّة، بسكانها، وعقاراتها الآدمية، وبشمسها التي قد تكون فرصةً اقتصادية لكل السوريين.
