ARTICLE AD BOX
احمد ثامر جهاد
يمكن اعتبار فيلم بولانسكي الجديد"اني اتهم" او "ضابط وجاسوس" المستند الى رواية بنفس العنوان لروبرت هاريس صدرت 2013 مقاربة ضمنية لسيرة المخرج الذي قدم في هذا الفيلم خطابا سينمائيا كلاسيكيا محكما يمثل انتصارا اخلاقيا لاولئك الذي يجدون انفسهم -في سياق ظروف معقدة- موضع شك واتهام دون ان يتعرف المجتمع حقيقة ما لحق بهم من ظلم وحيف. ليس معنى ذلك ان بولانسكي البولندي الاصل (صاحب طفل روز ماري والحي الصيني وماكبث وعازف البيانو وسواها من الاعمال العظيمة) يغلّب همه الذاتي على ما هو عام ومفهومي، لكنه يعوّل في الغضون على الجدل المحتمل اثارته في اعادة عرض ومعالجة واحدة من اشد قضايا المحاكمات القضائية زيفا في التاريخ الفرنسي، وعليه ستحضر حالته الشخصية ضمنا بوصفه اكثر مخرج معاصر تعرض لاتهامات وملاحقات قانونية، تارة بتهمة قتل زوجته واخرى بجريرة اغتصاب فتاة قاصر بشكل اضر كثيرا بسمعة المخرج وعمله الفني. فما زال بولانسكي الى يومنا هذا مطلوبا للقضاء الامريكي وممنوعا من دخول الولايات المتحدة وسط دعاوى متعقلة من هنا وهناك تنشد التفريق بين بولانسكي المواطن وبولانسكي الفنان الذي يعد من خيرة كبار السينمائيين الاحياء في عصرنا الراهن.
يقول بولانسكي"قصّة الفيلم تشابه لحظات مررت بها، أستطيع أن أرى التصميم نفسه على انكار الحقائق وإدانتي بأشياء لم أقم بها". بينما تقول زوجته ايمانوئيل سينر: "لقد عانى بولانسكي المضايقات نفسها التي تعرّض لها دريفوس".
التضيق على المخرج الكبير مستمر الى يومنا هذا ويعاد الجدل بشان الموقف منه مع كل مناسبة عرض فيلم جديد له او حضوره محفلا سينمائيا او حفل تكريم. حتى ان بعض المنظمات النسوية هددت برفع دعاوى قضائيا اذا ما حضر المخرج الى مهرجان فينسيا الذي حصد الفيلم فيه جائزة النقاد.
لتبيان حقيقة تشويه سمعة شخص برئ يتهم زورا، ليس ثمة ما هو أدل من تناول قضية الضابط اليهودي" الفريد درايفوس" الذي اتهم بالخيانة العظمى لتسريب معلومات عسكرية وامنية الى الالمان اواخر القرن التاسع عشر 1894وحكم عليه بالفصل من الجيش وتجريده من رتبته العسكرية ونفيه الى جزيرة الشيطان سيئة الصيت. الشي المميز في هذا السيناريو المحكم هو ان بولانسكي لن يتقصى تفاصيل الحكاية كما هو متوقع من شخصية درايفوس نفسه كونه محور الاحداث وانما من خلال الجنرال بيكار الذي يكتشف بحكم عمله ان درايفوس(لوي غاريل) برئ من التهم التي طالته، وقد نكل به تحت طائلة معاداة السامية وفساد المؤسسة العسكرية والامنية الفرنسية. وبهذا يترك المخرج حرية واسعة للمشاهد للحكم على صحة وطبيعة ما يراه على الشاشة من احداث ووقائع وله وحده منصة الحكم الاخير في نهاية الامر.
يقول بيكار(جان دوجاردان) لزميله حينما يدخل مبنى الاستخبارت العسكرية ماهذه الرائحة الكريهة التي تعم المبنى. انها حتما رائحة المجارير المجاورة، في اشارة صريحة لحجم فساد الاجهزة الامنية ورجالاتها. انه صراع قيم اخلاقية يتجدد مع كل عصر وفي كل مجتمع، صراع قيم الشرف والضمير والاصرار على الحقيقة وان كان ثمنها باهضا.
فضلا عما تقدم ينجح المخرج في تمرير قضايا جانبية عبر اشارات ذات دلالة سياسية وثقافية كاهمية الحفاظ على اسس الديمقراطية في الجمهورية الفرنسية التي ستلعب الصحافة فيها وكذا اصحاب الراي والكتاب دورا اخلاقيا وتنويريا مهما في اظهار الحقيقة للناس وتدشين صورة مجتمع حر معافى من لوثة الاستبداد والاستغلال. يضع بولانسكي "اميل زولا" في ذروة تطور الاحداث وعلى رأس اؤلئك الشجعان المدافعين عن بيكار ودرايفوس حتى انه يقتبس عنوان فيلمه من رسالة زولا الشهيرة التي وجهها الى رئيس الجمهورية ونشرتها الصحف الفرنسية انذاك وكانت صرخة مدوية من نتائجها الحكم على زولا بالسجن لمدة عام مع غرامة مالية. بعد مرور نحو سبع سنوات ستظهر الحقيقة للراي العام ويطلق صراح درايفوس ويعاد الى الخدمة العسكرية، فيما يصبح بيكار وزيرا في الحكومة.
اداء تمثيلي رصين(لوي غاريل، جان دوجاردان،ايمانوئيل سينر)ومعالجة اخراجية انيقة ومحترفة تليق بمخرج من طراز فني رفيع.
The post شاهدت لكم.. من روائع بولانسكي: ضابط وجاسوس appeared first on جريدة المدى.