ARTICLE AD BOX
من خلال ألبومها الأخير"شَلَقْ" الذي احتفلت بإطلاقه عبر عرضٍ أقامته نهاية الشهر الماضي في مسرح الجيزويت بالقاهرة، تبتكر المغنية المصرية الشابة نغم صالح أسلوبًا غنائيًّا جماهيريًّا، قد يكون سبّاقًا، تجمع فيه لونًا موسيقيًّا شعبيًّا أميركيًّا جرت عولمته، مع لون الغناء الشعبي المصري.
وقد نتج من تلك الخلطة "الصالحيّة" تطوّران لافتان: الأول، تحديث ما يُعرف بظاهرة غناء المهرجانات المصرية، والثاني، تأتّى عن الأول، وهو وضع المهرجانات في سياق ثقافي اجتماعي جديد، يتجاوز بيئة "القاع" التي انبثقت منها ومثّلتها، وتلقّت جراء ذلك الكثير من التحامل والتنمر مارستهما الرموز الفنية والثقافية المحلية والعربية عبر وسائل الإعلام.
لعلّ السَّبْق ليس استثناءً حقًّا بقدر ما هو ركوب موجةٍ صاعدة والدخول في سوقٍ فنيةٍ مدرّة، اللهم إلا إذا نُظِر إليه من منظور مصري، وبالتحديد نسائيّ نسوي؛ فما يُعرف بـ"أورينتال راب" بات في السنوات العشر الأخيرة مظهرًا ثقافيًّا عامًا في المنطقة الناطقة بالعربية، سواء في مشرقها أو مغربها، تكاثرت فيه الفرق الموسيقية الغنائية الشبابية، منها ما استسهل تقنيًّا، أو استثمر إبداعيًّا في إطار إلكتروني رقميّ سائد، يوفّر للأغنية الشعبية لَبوسًا عصريًّا، يلقى صدى لدى الجيل الجديد من المراهقات والمراهقين.
يمكن أن تُعزى مؤهلات صالح للنجاح في هذا المسعى التحديثي بالدرجة الأولى إلى إجادتها الغناء الشرقي، ما يسمح لها بأن تؤدي الراب المندرج ضمن فئة التراب، أي الإلقاء المُرنَّم أو المُغنّى، بينما انحصر معظم نجوم "الأورينتال راب"، ويكاد يكون معظمهم من الذكور، على نَظْم الكلام المقفّى غير المُغنّى، أو إبداء مقدرة متواضعة على الغناء، تتولى المحسّنات الحاسوبيّة مهمة ترقيعها وتجميلها.
تبرز، في الدرجة الثانية، المرونة الثقافية التي مكّنت الفنانة متعددة التخصصات من استيعاب سمات الهيب هوب الأميركي، لا موسيقيًّا فحسب، بل اجتماعيًّا أيضًا. يتجلّى ذلك في واقعية الشخصيات التي تلعبها ضمن مقاطع الفيديو كليب. فصالح لم تدخل "المشهد" (كما يحلو للرابرز تسمية الهيب هوب المصري) من تحت خيمة المهرجانات، بل من نوادي الموسيقى المصرية البديلة (Indie)، التي تُشكّل الطبقة الوسطى المدينية الحامل الاجتماعي لها. فضلاً عن أن المغنية درست التمثيل، وعملت ممثلة في عدد من الأعمال الدرامية المصرية، المسرحية والتلفزيونية والسينمائية، وعليه فهي قادرة على تمثيل ثقافات مختلفة ومن دون أن تفقد محلّيتها، أو مصريّتها.
بذلك، لا يُشكّل الإصدار الجديد قطيعةً مع ما سبق، أي مرحلة الموسيقى البديلة، بدايةَ مشوارها، ثم الإطلالة على الجمهور المصري من خلال البوب العربي التقليدي عبر بوابة المنتج الفنّي نصر محروس، وإنما قد يجمع كل ما سبق، ثم يتجاوزه مستوفيًا أعراف ألبومات الهيب هوب ومعاييرها، أكانت تلك الإنتاجية منها، كإصدار تراكات بالشراكة مع أسماء لامعة على ساحة الراب المصري والعربي، مثل الرابرز شاهين وتاكي، إضافة إلى أختها الممثلة والمغنية وكاتبة الأغاني مريم صالح، واسم من لبنان هو المنتج ذائع الصيت عالميًّا زيد حمدان. ثم الشكلية الأسلوبية منها، أولاً من خلال الدور المركزي المُسند إلى الموسيقى الإلكترونية، عبر التعاون مع منتجين مثل خالد برجونا وB62 Records، وثانيًا، تولّي نغم صالح شخصيًّا كتابة النصوص وتأليف الموسيقى.
من خلال كلٍّ من المغنّى والمشهد، تعكس الأغنية المصوّرة التي تحمل اسم الألبوم الجديد "شَلَق" ملامح التجربة الصالحيّة الجديدة بصورة وافية. يتألّف الفيديو كليب من 11 لقطة تتكرّر باستمرار، تُصوّر ما تبدو أنها عصابة مسلّحة من ثلاث فتيات، يستقللن سيارة بيك أب تجوب الشوارع المُقفرة ليلًا، بينهنّ اثنتان مُلثّمتان تحملان أسلحة خفيفة، فيما تُسفر نغم صالح عن وجهها وتتموضع ضمن المشهديّة، كما لو أنها تبوّأت الزعامة.
موسيقيًّا وفي الواجهة، يُسمَع إيقاع البلدي الرباعي على الرّق، فيما لأجل الخلفية، صمّم كلٌّ من خالد برجونا وB62 مساحات متعددة الطبقات، متداخل بعضها مع بعض، من ريفس (Riffs) إلكتروني ذات صبغة وترية منخفضة، تقترب لونيًّا من آلة التشيلّو الوتريّة، ويُقابلها خط لحني مرتفع يوحي بصوت الناي المُعالج في الاستوديو، تدخل في حلقة لولبية من قرار وجواب على غرار موسيقى الهيب هوب.
في الوقت نفسه، تنطلق بعض الأصوات الكهربائية الصادرة عن ما يُشبه السينثسايزر، في ارتجالات تكسر من الطابع الرتيب لمينيماليّة التراب، الذي يقوم على تكرار الجمل أو نظم جُمَل مختلفة وفق ذات التقطيع من المدّ (صداع) والقبض (بقالك). أما لأجل الأداء الغنائي، فتوظّف صالح لونين مصريين محليّين، استطاعت مزجهما بهدوء، أحدهما الغناء البديل، إذ تتردد أصداء جمل الشيخ إمام اللحنية، والثاني الغناء الشعبي البلدي والصعيدي وحتى الأمازيغي، ليس فقط لجهة تفريداتها الطربية، ولكن أيضاً بقبضها للحنجرة مُصدرةً صياحاً جارحاً، يعبّر بأسلوب كاريكاتوري عن أنوثة تجمع الحساسية العاطفية بالجدعنة والبلطجة.
ومن خلال نبرة الجمع بين الجدعنة والبلطجة، تحاكي نغم صالح أداء رابرز البرونكس من الفتيات، ذلك الحي النيويوركي الشهير المرتبط بالهيب هوب الخشن، ومن أبرز ممثلاته اليوم من الإناث نجمات مثل Kenzo B وLady London. إلا أن الفارق لعلّه يكمن في الخطاب؛ إذ أولئك يتبنّين نبرة نسائية محافظة، صاخبة لكنها دونية في جوهرها — وإن بدت متغطرسة — تظل خاضعة لسطوة المال والرجل والتنافس الجنسي بين النسوة، فيما تتّجه صالح نحو خطاب نسويّ تحرّري مواجه، يتوجّه إلى الرجل بالتهديد والوعيد إن مارَس ذكوريّته. إنما تُقارب بذلك خلطة الراب الأميركي وغناء المهرجانات المصري من زاوية الموسيقى البديلة، المضمّنة برسائل اجتماعية تمسّ الشبيبة، ولا سيما الفتيات.
