ARTICLE AD BOX
تشهد السعودية طفرة ملحوظة في قطاع تكرير النفط، تعكس تحولاً نوعياً في إدارة مواردها النفطية لتنويع الإيرادات، وليس مجرد مصدر تصدير الخام، وسط تحديات هبوط أسعار النفط، ما ينعكس على عائدات الثروة الأحفورية. وفي مارس/آذار الماضي، بلغت كميات النفط الخام التي عالجتها المصافي السعودية 2.94 مليون برميل يومياً، بحسب بيانات رسمية، وهو مستوى قياسي لذلك الشهر. وتزامن هذا الارتفاع مع انخفاض صادرات الخام بنسبة 12% إلى 5.75 ملايين برميل يومياً، ما يعكس مرونة المملكة، وفق محللين، في التحول بين تصدير الخام وتكريره محلياً أو خارجياً.
وتستند استراتيجية السعودية إلى توسيع طاقتها التكريرية والبتروكيماوية وتطويرها محلياً وعالمياً، حيث تمتلك تسع مصافٍ داخلية بطاقة إجمالية 3.33 ملايين برميل يومياً (نحو 3% من الطلب العالمي)، إضافة إلى تشغيل 4.3 ملايين برميل يومياً من طاقة التكرير في الخارج، في أسواق رئيسية مثل الصين والولايات المتحدة وماليزيا، حسبما أوردت بيانات مبادرة بيانات المنظمات المشتركة، جودي (JODI).
وتهدف هذه الاستثمارات إلى تأمين منافذ دائمة لتسويق النفط السعودي، وتلبية الطلب المتزايد على الوقود والمنتجات البتروكيماوية، خصوصاً مع تصاعد الطلب الموسمي في نصف الكرة الشمالي خلال الصيف. وانعكست هذه الطفرة مباشرةً على عائدات المملكة من الثروة الأحفورية، إذ أسهمت هوامش التكرير القوية في تعويض خسائر الإيرادات الناتجة من انخفاض أسعار الخام، وبلغت صادرات المنتجات المكررة مستوى قياسياً عند 1.58 مليون برميل يومياً في مارس/آذار الماضي، ما عزز من تدفقات الإيرادات غير التقليدية، وفقاً لبيانات شركة "كبلر" لتتبع شحنات النفط عالمياً.
يشير الخبير الاقتصادي في مكتب استشارات في لندن لـ"العربي الجديد"، علي متولي، إلى أن الطفرة الحاصلة في نشاط التكرير النفطي داخل السعودية تهدف إلى تعظيم العائد من الثروة النفطية، خصوصاً في ظل التغيرات العالمية في هيكل الطلب على الطاقة، لافتاً إلى أن المملكة لم تعد تكتفي بتصدير النفط الخام فقط، بل ينصب تركيزها على التكرير المحلي وتحويل النفط إلى منتجات ذات قيمة مضافة، مثل الديزل والبنزين والبتروكيماويات، وهو ما يوفر دخلاً أعلى ويحقق قدراً أكبر من الأمان الاقتصادي أمام تقلبات أسعار النفط العالمية.
ويستند متولي في تقديره إلى إحصائيات رسمية مفادها أن إنتاج الوقود المكرر ارتفع بنسبة 0.9% على أساس سنوي في عام 2024، إضافة إلى حدوث طفرة كبيرة في إنتاج وقود الطائرات تحديداً، الذي سجل ارتفاعاً بلغ 14.9%، وغاز البترول المسال الذي زاد إنتاجه بنسبة 7.1%، لافتاً إلى أن هذا التحول أمر بالغ الأهمية في ظل المنافسة الشديدة مع كبار المنتجين مثل الولايات المتحدة وروسيا.
ويلفت إلى أن الاستثمارات الكبيرة في مشاريع كبرى مثل "ياسرف" و"بترورابغ" تؤكد أن السعودية تستعد بجدية لدخول عصر جديد من التكرير عالي التقنية، يقوم على دمج المصافي بوحدات بتروكيماوية ضخمة، مشيراً إلى أن كل هذه الخطوات تدخل ضمن إطار "رؤية 2030"، التي تسعى لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على تصدير النفط الخام، وهي خطوة استراتيجية لا ترفع فقط من قيمة كل برميل يستخرج، بل تفتح أيضاً فرصاً جديدة للتشغيل والصناعة داخل المملكة.
وفي السياق، يشير عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا في لبنان، بيار الخوري، لـ"العربي الجديد"، إلى أن السعودية كانت لعقود أكبر مصدر للنفط الخام في العالم، لكنها باتت اليوم تدرك أن مجرد تصدير المادة الخام لم يعد كافياً لضمان مكانتها ودخلها في المستقبل. ويوضح الخوري أن هذا التحول دفع المملكة إلى استثمار مليارات الدولارات في بناء مصافٍ ضخمة وتوسيعها مثل جازان وساتورب، بهدف الانتقال من مجرد بيع النفط الخام إلى تصنيعه وتحويله إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية، مثل البنزين والديزل والبتروكيماويات.
ويضيف أن الدافع المالي هو أحد المحركات الرئيسية وراء هذه الاستراتيجية، ففيما تُباع البراميل النفطية الخام بأسعار سوقية عالمية، فإن المنتجات المكررة تحقق هوامش ربح أعلى بكثير، خصوصاً في أوقات الأزمات العالمية. ويستشهد الخبير الاقتصادي بما حصل بعد الحرب الأوكرانية، حين شهدت أوروبا أزمة كبيرة في نقص الوقود المكرر نتيجة انقطاع الإمدادات من روسيا، حيث برز دور السعودية بسرعة لتزويد الأسواق الأوروبية، وهو ما فتح أمامها قنوات جديدة للإيرادات واستثمرت موقعها الجيوسياسي بذكاء.
لكن القضية، كما يشير الخوري، ليست اقتصادية فقط، بل تحمل بعداً جيوسياسياً، إذ إن الاعتماد المتزايد من دول العالم على المنتجات المكررة السعودية يجعل المملكة لاعباً محورياً في سلاسل الإمداد الصناعية العالمية، من النقل البحري والجوي إلى الصناعات الكيميائية والبتروكيماوية، ما يمنحها نفوذاً إضافياً على طاولات المفاوضات السياسية والتجارية.
ويتابع الخوري أن هذا التحول يعكس أيضاً إدراكاً عميقاً من السعودية لطبيعة التحولات العالمية نحو تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، لكنها في الوقت نفسه تعرف أن المنتجات المكررة والبتروكيماويات ستظل مطلوبة لعقود طويلة، خصوصاً في القطاعات التي ما زالت تواجه تحديات في التحول نحو الطاقة النظيفة، مثل الشحن البحري والطيران والصناعات البلاستيكية.
غير أن هذا المسار ليس خالياً من التحديات حسبما يرى الخوري، فهناك منافسة شديدة من دول آسيوية كبرى مثل الهند والصين، التي تطور قدراتها التكريرية بوتيرة سريعة، إضافة إلى الضغوط البيئية العالمية التي تتطلب من المملكة استثمارات موازية في مجالات مثل الهيدروجين الأخضر والأمونيا الزرقاء والوقود النظيف، حتى تبقى قادرة على المنافسة في عالم يتغير بسرعة.
