ARTICLE AD BOX
تشهد اليابان منذ شهور نقصاً حاداً وأزمة في الأرز، وتواجه أزمة في تلك السلعة الجماهيرية أدت إلى حدوث ارتفاعات كبيرة في سعرها بلغت ما يقرب من 100%، وتسارع مؤشر التضخم بأكبر وتيرة له منذ أكثر من عامين، وهو ما ضغط على تكاليف الحياة والأحوال المعيشية داخل دولة معروف عن مواطنيها التمتع بالرفاه والدخل المرتفع، ودفعت الأزمة وزير الزراعة الياباني لتقديم استقالته، وعمقت ورطة حكومة رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا والحزب الحاكم خاصة مع قرب الانتخابات، خاصة مع مواجهة الاقتصاد الياباني تحديات عدة ناتجة عن حرب أميركا التجارية ورسوم ترامب الجمركية وتداعيات الركود والتضخم وشيخوخة السكان.
الأزمة فريدة من نوعها داخل اليابان، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي بعد الولايات المتحدة والصين، ولها حساسية خاصة على المستوى الشعبي والديني، فعلى مدى قرون طويلة، ارتبط الأرز بالطقوس الدينية والاحتفالات الموسمية، ومنذ القدم وحتى اليوم يعد رمزاً للخصوبة والوفرة. كما يشكّل الأرز أكثر من سلعة غذائية يومية؛ فهو جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والتقاليد المجتمعية والسياسات الاقتصادية الزراعية.
على مدى قرون طويلة، ارتبط الأرز بالطقوس الدينية والاحتفالات الموسمية في اليابان، ومنذ القدم وحتى اليوم يعد رمزاً للخصوبة والوفرة
أزمة الأرز بدأت تلوح في الأفق في اليابان مع حصاد عام 2023 الذي كان قليلاً نسبياً بسبب الطقس الحار والآفات، وتراجع تعداد المزارعين الذي انخفض بواقع النصف طوال العقدين الماضيين ليصل إلى 1.1 مليون فلاح خلال عام 2024. لكنها تعمقت في الصيف الماضي، حيث انخفضت الإمدادات في الأسواق من قبل المزارعين، مع إرجاء وزارة الزراعة إطلاق احتياطيات الأرز الطارئة، التي عادة ما يتم الاحتفاظ بها لأوقات الأزمات والكوارث.
وتفاقمت الأزمة عقب حدوث موجة شراء كبيرة واندفاع قطاع كبير من اليابانيين نحو حيازة أكبر كميات من السلعة الشعبية بسبب صدور تحذيرات بشأن "زلزال كبير" محتمل في اليابان. وقتها بدأ الأرز في الاختفاء من الأسواق اليابانية ومن على أرفف المحال التجارية، وارتفعت الأسعار بنسبة 98.4%، وأصبحت تكلفة الشراء ضعف المستويات الطبيعية، وعانى المواطن في الحصول على تلك السلعة الغذائية.
وللتعامل مع أزمة انخفاض إمدادات الأرز، أفرجت الحكومة في اليابان عن جزء من الاحتياطيات الاستراتيجية في المخازن، وطرحت كميات ضخمة منه في الأسواق، لكن هذه الكميات وصلت ببطء إلى أرفف المحال والمتاجر، والنتيجة تراجع المعروض في الأسواق وانخفاض احتياطي الأرز لدى الجمعيات التعاونية الزراعية وتجار الجملة بواقع 400 ألف طن مقارنة بمستويات العام الماضي.
وفي الوقت الذي كان فيه المستهلك يشعر بالإحباط من قفزات الأسعار واختفاء السلعة الشعبية، ويتساءل عن مصير أزمة الأرز التي تشهدها الدولة المتقدمة بشكل نادر خرج عليهم وزير الزراعة، تاكو إيتو، بتصريح أثار ضجة بقوله إنه "لم يضطر مطلقاً لشراء الأرز، لأن أنصاره يقدمونه له هدية".
هنا انقلبت الدنيا رأساً على عقب، وزاد هجوم الرأي العام على حكومة رئيس الوزراء إيشيبا واتهموها بعدم مراعاة مشاعر ومصالح الناخبين والمستهلكين، وتصاعد الغضب الشعبي أكثر، إثر تصريحات الوزير وزلة لسانه التي اعتبروها مسيئة وغير لائقة.
حكومة إيشيبا تسابق الزمن لحل أزمة الأرز، واتخذت خطوات نادرة للتقليل من تداعياتها على الأسواق، ومحاصرة ظاهرة ارتفاع أسعار السلعة إلى مستويات قياسية هذا العامورغم اعتذار الوزير وقوله إنه "ليس الشخص المناسب لهذا المنصب"، وتعهد إيشيبا بخفض متوسط سعر الأرز وإعادة سعره إلى ما دون ثلاثة آلاف ين (20 دولاراً) لكل خمسة كيلوغرامات. لكن هذا التعهد لم يهدِّئ غضب الشارع المتصاعد، فما كان من رئيس الحكومة إلى أن قبل استقالة وزير الزراعة رغم معارضته الأمر في بداية الأزمة.
حكومة إيشيبا تسابق الزمن لحل أزمة الأرز، واتخذت خطوات نادرة للتقليل من تداعياتها على الأسواق والتضخم، ومحاصرة ظاهرة ارتفاع أسعار السلعة إلى مستويات قياسية هذا العام، وسارعت باستيراد الأرز من الخارج، في ظل تزايد الضغوط عليها، وقرب انتخابات مجلس الشيوخ المقررة في يوليو/ تموز المقبل، وهي تخشى خسارة تلك الانتخابات بعد أن تحول سعر الأرز، الغذاء الرئيسي للمواطن، إلى قضية سياسية رئيسية، بل إنها تخشى الإحباط الناجم عن ارتفاع تكاليف المعيشة، والذي بات يشكل تهديداً كبيراً لرئيس الوزراء وحزبه الليبرالي الديمقراطي.
الحكومات المنتخبة تحترم إرادة الناخب، بل تخشى غضب المستهلك، وإذا حدثت أزمة طارئة، اختفاء سلعة أو زيادة سعرها، أو تدني مستوى خدمة حكومية أو زيادة رسوم وضرائب، فإنها تتحرك بسرعة لاحتوائها، لأن الفشل يعني فقدان ثقة الشارع، بل وربما القضاء على مستقبلها السياسي.
أما الحكومات المستبدة وغير المنتخبة أو تلك التي تحتقر شعوبها، وتحكم مواطنيها بالتزوير وربما الحديد والنار، فلا تكتفي بالتسبب في إشعال الأسواق وحدوث قفزات متواصلة في أسعار السلع الرئيسية، وتجاهل الأزمات الشعبية والجماهيرية، بل تنكر تلك الأزمات من الأصل، وإذا شكا مواطن من ارتفاع سعر سلعة أو تكلفة خدمة، فإنه قد يخشى على حياته، فقد يتم توجيه اتهامات له بارتكاب جرائم منها الإرهاب وإثارة الرأي العام ومحاولة قلب نظام الحكم، اتهامات قد تقوده إلى غياهب السجون لسنوات طويلة وربما للأبد.
