ARTICLE AD BOX
لم تعد آلام الفلسطينيين تقتصر على فقد الأطراف خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بل امتدت لتشمل فقد العيون أيضاً، كلتيهما أو واحدة منهما، ما يعني فقد الأمل في بناء حياة جديدة.
تزداد معاناة من فقدوا أعينهم في قطاع غزة يوماً بعد آخر بالتزامن مع الانهيار شبه الكامل للمنظومة الصحية في القطاع، وعدم توفر الأدوية والمستهلكات الطبية اللازمة لإجراء العمليات الجراحية أو الاستشفاء نتيجة استمرار إغلاق الاحتلال المعابر منذ ما يزيد عن 70 يوماً.
ووفق بيانات وزارة الصحة في غزة، فإن نحو 1500 فلسطيني فقدوا البصر من جراء حرب الإبادة المتواصلة منذ أكثر من 19 شهراً، كما أن نحو 4000 آخرين مهددون بفقدان البصر في ظل نقص الأدوية والتجهيزات الطبية، ما يدق ناقوس الخطر لضرورة التحرك العاجل لتفادي تلك الكارثة، خصوصاً في ظل اعتماد كل المرضى والمصابين على مستشفى حكومي واحد متخصص في أمراض العيون.
وألحق جيش الاحتلال دماراً كبيراً بمستشفى العيون التخصصي الواقع في مدينة غزة، ما تسبب في خروجه عن الخدمة لمدة تزيد عن 14 شهراً، قبل إعادة تأهيله وافتتاحه في نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بتمويل خارجي، ولكن ليس بنفس القدرة الاستيعابية السابقة.
تنتظر الطفلة فاتنة الغصين (12 سنة) رفقة والدتها إنهاء إجراءات دخولها قسم المبيت في مستشفى العيون التخصصي، لتلقي العلاج المناسب لعينها اليُمنى المعصوبة بشاش طبي أبيض، نتيجة تعرضها لشظايا خلال قصف إسرائيلي في 28 إبريل/ نيسان الماضي، حين خرجت لشراء الحاجيات لها ولإخوتها في شارع اللبابيدي بمدينة غزة، حيث تزامن ذلك مع غارة جوية إسرائيلية، أصابتها بشظايا مباشرة في الرأس والعين، نُقلت إثرها إلى مستشفى الشفاء، ثم إلى المستشفى العربي المعمداني، حيث أظهرت الفحوص كسوراً متعددة في الجمجمة، ونزيفاً حاداً في الدماغ، وتلفاً كاملاً للعين اليمنى، إضافة إلى شظايا أصابت الكبد والقولون والكلى.
الآلاف مهددون بفقدان البصر من جراء استمرار العدوان على غزة
وتقول والدتها أم يوسف لـ"العربي الجديد": "خضعت فاتنة لعملية جراحية استمرت أربع ساعات لإيقاف النزيف الدماغي وإنقاذ حياتها، ورغم تعافيها الجزئي، وقدرتها على السمع والنطق والحركة، لكنها فقدت عينها اليمنى وفق تشخيص الأطباء لحالتها، والذين قرروا تفريغ عينها بالكامل، وهي تحتاج إلى زراعة عين بلاستيكية لأغراض تجميلية، بينما تعرضت العين اليسرى لتورم وكدمات بدأت تتحسن تدريجياً. ابنتي كانت جميلة وذكية، وكانت مليئة بالحياة، واليوم نحكي عن عين بلاستيكية. أي حياة هذه لطفلة؟ لا تعليم ولا أمان ولا مستقبل. حسبنا الله ونعم الوكيل".
حكاية وجع أخرى يروي تفاصيلها الفلسطيني محمد مشتهى (26 سنة) من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، والذي فقد كلتا عينيه في قصف إسرائيلي وقع في شارع الوحدة في 4 ديسمبر/ كانون الثاني 2023، وحينها كان متوجهاً إلى أحد الأسواق الشعبية لجلب احتياجاته.
يقول مشتهى لـ "العربي الجديد": "عندما أُصبت لم يكن هناك أطباء عيون في المنطقة بسبب نزوح العشرات إلى مناطق جنوبي القطاع، ومع ندرة المستهلكات الطبية، تم إجراء عملية تفريغ شظايا فقط، ولم أعلم أنني فقدت بصري بالكامل إلا بعد 25 يوماً من الألم والوجع الذي لم يفارقني حتى اليوم. لازلت في عز شبابي، وكنت أعمل وأتحرك وأرى، واليوم أصبح كل شيء مظلماً. أتمنى إعادة فتح المعابر كي أتمكن من السفر للعلاج في الخارج، وأملي أن يعود بصري".
تكررت ذات المأساة مع الشاب سمير بكر (17 سنة)، والذي أُصيب بشظية في عينه اليُمنى في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، من جراء قصف مدفعي قرب دوار الشهداء في معسكر جباليا شمالي قطاع غزة، وخضع إلى عدة عمليات جراحية.
يروي والده سامي بكر لـ "العربي الجديد": "بعد إجراء عدة عمليات جراحية لابني سمير، اضطررت إلى عمل تحويلة طبية للعلاج في الخارج، وتوجه إلى مصر للعلاج، لكن للأسف لم تفلح كل المحاولات، فقد كان الضرر كبيراً، إذ تلفت الشبكية كلياً، وفقد الرؤية في تلك العين. وضع سمير حالياً صعب، إذ لا يزول الألم في عينه ووجهه، إضافة إلى أنه يعيش حالة نفسية سيئة، خصوصاً أنه فقد شقيقه في قصف إسرائيلي آخر. أصبحنا نعيش في سلسلة من المآسي التي خلّفتها الحرب".
أما الفلسطيني زكريا سليم (56 سنة)، فهو مريض قلب وسكري، ويعاني من نزف في العين اليسرى منذ بداية الحرب، وحال نزوحه القسري من بيت لاهيا إلى غرب مدينة غزة دون تلقيه العلاج في الوقت المناسب. يقول سليم لـ "العربي الجديد": "حالتي الصحية تتدهور يوماً بعد آخر، وفقدُت البصر في العين اليُسرى بالكامل، واكتشف الأطباء ثقباً في شبكية العين الأخرى، لذا أنتظر إجراء عملية جراحية، وإلا سأفقد بصري بالكامل".
بدوره، لم يكن المُسن الفلسطيني عزمي شنن (72 سنة) يُعاني من أية مشاكل في عينيه قبل العدوان على قطاع غزة، ويقول لـ"العربي الجديد": "خلال الحرب لاحظت ضعفاً شديداً في الرؤية في العين اليُسرى، وتبيّن لاحقاً أن هناك مياها بيضاء تحتاج إلى عملية جراحية من أجل إزالتها. استمرار الحرب ونقص الإمكانات والأدوية اللازمة، يجعلني مهدداً بفقدان البصر، لذلك أتمنى إجراء عملية جراحية في القريب العاجل تفادياً للتعرض لهذا الخطر".
وتعاني الطفلة لانا (9 سنوات) من إصابة في أعصاب عينها اليُمنى منذ سقطت من علو قبل عدة أيام، ويقول والدها نديم البنا لـ "العربي الجديد": "سقوط لانا تسبب بكسر في الجمجمة وانتفاخات في عينيها، وقد تبين لاحقاً أن شبكتي العين سليمتان، وأن الضرر في العصب البصري، وهي بانتظار إجراء مزيد من الفحوص".
من ناحيته، يحذّر مدير مستشفى العيون التخصصي في غزة عبد السلام صباح، من تصاعد الكارثة الصحية التي يواجهها مرضى العيون في القطاع كله، مؤكداً أن أكثر من 1500 شخص فقدوا بصرهم بالفعل منذ بدء العدوان الإسرائيلي المتواصل، والمخاطر تتزايد على آلاف آخرين في ظل انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية في القطاع.
ويوضح صباح لـ "العربي الجديد": "الرقم المُعلن لأعداد من فقدوا البصر هو رقم تقديري، وربما يكون العدد الحقيقي أكبر، خصوصاً مع استمرار العدوان، وتكرار استهداف المدنيين من كل الفئات، من الأطفال إلى كبار السن. الإصابات المباشرة بالعين ناجمة عن الشظايا والانفجارات والأحزمة الناسفة، إلى جانب تفاقم مضاعفات الأمراض المزمنة، بينما نعاني من نقص حاد في المستهلكات الطبية والأدوات العلاجية".
ويضيف: "الآلاف مهددون بفقدان البصر بشكل مؤقت أو دائم من جراء استمرار العدوان، وانعدام فرص العلاج للأمراض المزمنة مثل اعتلال الشبكية السكري، والغلوكوما، والمياه البيضاء، والتهابات العين المختلفة، ومعظم هؤلاء المرضى يمكن إنقاذ بصرهم عبر تدخلات طبية بسيطة، لكنها غير متوفرة بالمرة في القطاع. مستشفى العيون التخصصي هو الوحيد في القطاع، وقد أصبح مهدداً بتوقف العمليات الجراحية، بما فيها الجراحات الطارئة، بسبب النقص الحاد في المضادات الحيوية ومضادات الالتهابات".
يتابع صباح: "عدد المرضى على قوائم الانتظار يبلغ 1300 حالة مسجلة خلال الأشهر الأربعة الماضية، 70% منهم مصابون بالمياه البيضاء، وهو مرض يمكن علاجه واستعادة البصر من خلال عمليات جراحية بسيطة. كان المستشفى يقدم خدماته عبر 40 سريراً، لكن ظروف العدوان أجبرتنا على تقليصها إلى 14 سريراً فقط، كما نعمل وفق نظام عمليات اليوم الواحد نتيجة عدم استقرار الحالة الأمنية في القطاع نتيجة تداعيات استمرار العدوان".
ويدعو مدير مستشفى العيون التخصصي المؤسسات الصحية والإنسانية الدولية إلى التحرك العاجل لتوفير الأدوية والمستلزمات الجراحية الأساسية، والسماح للوفود الطبية بالدخول مع ما يلزم من أدوات، مشيراً إلى أن استمرار الحصار وإغلاق المعابر يهدد بتحول فقدان البصر في غزة إلى كارثة جماعية.
ويواصل الاحتلال الإسرائيلي تشديد حصاره على قطاع غزة منذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو يحرم السكان من الحصول على الغذاء والدواء والوقود، ويربط فتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية والوقود والأدوية والمستهلكات الطبية بالإفراج عن المحتجزين في غزة.
