"غسق" كريستل خضر: ذلك الركام الذي يحاصر ذاكرة اللبنانيين

2 weeks ago 9
ARTICLE AD BOX

في عرضها المسرحي المتقن "غسق"، تعود كريستل خضر إلى نص "الساعون إلى العرش" لهنريك إبسن، لتقدّمه من منظور معاصر وجريء، يعيد مساءلة هوس السلطة وسط مزيج درامي يتأرجح بين الأسطورة والسياسة، وبين العبث والواقع. يسائل العرض الرغبة المشتهاة بالعرش، وسؤالها الجوهري: ما الذي يدفع الإنسان نحو السلطة؟ وهل تستحق هذه الرغبة ثمنها الفادح؟
انطلقت العروض في الثامن من مايو/أيار على خشبة مسرح المدينة، متحدية واقعًا تقنيًا وإنتاجيًا صعبًا يعكس مأزق المسرح اللبناني. إلا أن "غسق" فرض حضوره بقوة عبر رؤية إخراجية دقيقة، وأداء تمثيلي مكثّف تجنّب الكليشيهات، متكئًا على وعي جسدي ونفسي بالأدوار.
السينوغرافيا جاءت مختزلة، لكنها مشبعة بالدلالات: ظلمة طاغية، مبنى متداعٍ، وركام يحاصر الشخصيات كما تحاصر الذاكرةَ الجماعية لجيل نشأ وسط الحرب الأهلية اللبنانية. هو الجيل نفسه الذي يستعيد في "غسق" مخاوفه من الفقد والانهيار، ومن علاقته المرتبكة بالوطن، والعائلة، والسلطة.
يؤدي العمل كلٌّ من رودريغ سليمان، وإيلي نجيم، وروي ديب، وطارق يعقوب. وعلى الخشبة، تتقاطع أصواتهم وحركاتهم في إيقاع مشحون بالتوتر والانكشاف، بين توق للسيطرة وخوف دفين من السقوط. يحمل الأداء طابعًا تعبيريًا عاليًا، جعل من العرض تجربة شعريّة مقلقة، لا تبحث عن إجابات بقدر ما تفتح أبواب الشك.
تنطلق المسرحية من لحظة 1 سبتمبر/ أيلول، ذكرى إعلان دولة لبنان الكبير بكلّ ما تحمله من مفارقات وخطابات جوفاء. في هذا السياق، لا يُقدَّم العرش بوصفه رمزاً سلطوياً فقط، بل أثرَ رغبة جماعية متوارثة تكشف هشاشة البُنى السياسية والاجتماعية التي حكمت لبنان منذ تأسيسه.
وفي حديثها إلى "العربي الجديد"، تقول كريستل خضر: "اخترت مشاهد غير محورية من نص إبسن، تلك التي تكشف ملامح الشخصيات أكثر مما تُحرّك الحبكة. ترجمتُها إلى العامية، ثم أعَدْتُ كتابتها ضمن ورش عمل جماعية. النص تطوّر مع التمارين، واشتغلنا على مفاهيم مثل الردم، الذكورية، الأبوية، اللاعدالة، وعدم الاستقرار... وهي كلها أثقال في الذاكرة اللبنانية".
اللافت في "غسق" هو كيف تعيد خضر تمثيل هواجس جيل الثمانينيات ــ الجيل الذي نشأ على أنقاض الحرب ولم يجد موقعه في حاضرٍ متصدّع. لا تظهر الشخصيات كأشباح الماضي، بل ككائنات تبحث عن معنى وسط عالم مفكّك، حيث يصبح السعي إلى العرش مرادفًا للسقوط في الوهم.
بأدوات بسيطة مشحونة بالمعنى، تتنقل خضر بين الأزمنة والأنماط المسرحية. الإضاءة الخافتة، الركام، والفراغات المتعمدة ترسم ملامح لحظة "غسق" بامتياز: لحظة تتأرجح بين الضوء والعتمة، بين الإدراك والتشوّش، بين الانكشاف والتقهقر.

معروفة بأعمالها التجريبية المركّبة، تثبت كريستل خضر مجددًا قدرتها على تحويل النصوص إلى مختبرات فكرية وجمالية. في "غسق"، لا نرى اقتباسًا فقط، بل تفكيكًا للسلطة، وإعادة مساءلتها بلغة مسرحية تستفز المتلقي. من يملك السلطة؟ من يملك الحقيقة؟ وهل يمكن للعرش أن يكون أكثر من وهم جماعي نعيد تكريسه كل يوم؟
في زمن تتكاثر فيه العروش وتتقلّص الحريات، تأتي "غسق" كهمسة احتجاج ناعمة، لا ضد الملك، بل ضد الاستبداد المتجذّر في الداخل. وفي كل غروب، تذكّرنا المسرحية أن الظلام ليس قدرًا، وأن النور، وإن تأخر، لا يموت.

Read Entire Article