ARTICLE AD BOX

<p>بينت بيانات بحرية سرية أن هناك شحنة إضافية كانت مقررة بصورة سرية أن تحمل قطعاً لأسلحة رشاشة متجهة إلى إسرائيل (أ ب)</p>
في وقت يُدين فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علناً السياسات الإسرائيلية في قطاع غزة، كشف تحقيق استقصائي مشترك بين الموقع الفرنسي "ديسكلوز" والموقع الإيرلندي "ذا ديتش" عن استمرار فرنسا في تصدير معدات عسكرية إلى إسرائيل سراً عبر ميناء "فوس-سور-مير" القريب من مرسيليا، باتجاه ميناء حيفا.
وفي خطوة احتجاجية لافتة، امتنع عمال الأرصفة في ميناء مارسيليا-فوس الفرنسي، الأربعاء والخميس الماضيين، عن تحميل شحنات من المعدات العسكرية المخصصة لإسرائيل، التي تضم أجزاء لأسلحة رشاشة من إنتاج شركة "يورولينكس". وقد عبّر العمال، من خلال نقابتهم، عن رفضهم التورط في ما وصفوه بـ"الإبادة الجماعية" التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة.
كذلك كشف التحقيق أيضاً عن شحنة حديثة كانت مقررة للتحميل على متن سفينة الشحن الإسرائيلية "كونتشيب إيرا"، تحمل 14 طناً من قطع غيار خراطيش المدافع الرشاشة من إنتاج شركة "يورولينكس" الفرنسية في مرسيليا، ومتجهة إلى شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية "آي أم آي". وتندرج هذه الشحنة ضمن سلسلة شحنات عسكرية منتظمة من فرنسا إلى إسرائيل خلال العام الحالي، إذ نقلت السفينة ذاتها في أبريل (نيسان) الماضي نحو 20 طناً من المكونات العسكرية إلى "آي أم آي". وفي مايو (أيار) الماضي، شحنت مليوني وصلة معدنية لطلقات الذخيرة من نوعي "أم-9" و"أم-27"، التي يُعتقد توافقها مع رشاش "نيغيف 5" المستخدم في الهجوم الدموي المعروف بـ"مجزرة الطحين" التي وقعت في غزة في فبراير (شباط) الماضي.
في الأثناء، بينت بيانات بحرية سرية، بتاريخ الخامس من يونيو (حزيران) الجاري، أن هناك شحنة إضافية كانت مقررة بصورة سرية أن تحمل سراً قطعاً لأسلحة رشاشة متجهة إلى إسرائيل، تتعلق بمعدات مدافع تُصنّعها الشركة الفرنسية "أوبرت أند دوڤال". ومثلما هي الحال مع وصلات الذخيرة من شركة "يورولينكس"، فقد تم شراء هذه المعدات من قبل شركة تصنيع الأسلحة الإسرائيلية "إلبِت سيستمز"، التي تُعد من أبرز الشركات الإسرائيلية المتخصصة في صناعة التكنولوجيا العسكرية والدفاعية، وتشمل أنظمتها الإلكترونية المتقدمة، والطائرات المسيرة، وأنظمة الاتصالات، والأسلحة المتطورة، وتُزوِّد القوات المسلحة الإسرائيلية إضافة إلى أسواق دولية عدة.
وتشمل البضائع المخزنة في أرصفة ميناء "فوس-سور-مير" خمسة طرود تحوي أنابيب للمدافع، ولم يُحدد طرازها أو نوع الأسلحة التي تُجهزها حتى الآن. وعند التواصل مع قسم الاتصال بشركة "أوبرت أند دوڤال"، أوضح لموقع "ديسكلوز" أن الشركة "تبيع أنابيب فولاذية لشركة 'إلبِت سيستمز' الإسرائيلية التي تقوم بتحويلها"، مؤكداً أن "رخصة تصدير المعدات الحربية التي تمنحها الدولة الفرنسية لشركة 'أوبرت أند دوڤال' تنص صراحة على أن المنتج النهائي الذي تصنعه 'إلبِت' يُعاد تصديره إلى قوات مسلحة ليست إسرائيلية".
من جانبه، قال كريستوف كلاريت، الأمين العام لنقابة "سي جي تي" لعمال الرصيف وموظفي الموانئ في خليج فوس، "أُبلغنا صباح الخميس بأن سفينة تعمل على خط بحري في البحر المتوسط كان من المفترض أن تحمل حاوية تحوي قطعاً لأسلحة رشاشة لشركة 'يورولينكس' لمصلحة إسرائيل. غادرت السفينة الميناء الجمعة من دون تحميل هذه الحاويات، إذ تمكنا من تحديد موقعها ووضعها جانباً. نحن مع السلام ونرفض كل الحروب والنزاعات."
وسط هذا الجدل نفى وزير الجيوش الفرنسي، سيباستيان لوكورنو، وجود أي تسليم مباشر لأسلحة هجومية، مؤكداً أن الصادرات الفرنسية إلى إسرائيل تقتصر على مكونات مخصصة للأنظمة الدفاعية أو لإعادة التصدير. وأوضح الوزير أن فرنسا صدّرت بالفعل 100 ألف خرطوشة رشاشة إلى إسرائيل، مشيراً إلى أن "هذه العملية تمت في إطار إعادة التصدير" إلى طرف ثالث، وليس للاستخدام المباشر من قبل الجيش الإسرائيلي، لكن توقيت هذه العملية، الذي تزامن مع الهجوم الإسرائيلي المكثف على غزة، أثار شكوكاً واسعة حول الرواية الرسمية.
وفي تطور يعكس واقع الإمدادات داخل إسرائيل، كشف ضابط إسرائيلي عن نقص حاد في مخزون الذخيرة داخل إسرائيل، وقال "إسرائيل تعاني نقصاً كبيراً، والجيش يسعى إلى الحصول على الإمدادات من كل مصدر ممكن"، مضيفاً أن "النزاع الحالي هو الأطول منذ أعوام ويستلزم استمرارية في التزويد".
دور شركة تالس في تحديث المنظومة العسكرية الإسرائيلية
كذلك كشف موقع "ديسكلوز" الاستقصائي، استناداً إلى وثائق تجارية، أن شركة "تالس" الفرنسية باعت، بين عامي 2018 و2023، مكونات إلكترونية وأنظمة اتصالات بقيمة لا تقل عن مليوني يورو لمصلحة تجهيز طائرات مسيّرة إسرائيلية، يُحتمل استخدامها في قصف المدنيين الفلسطينيين.
وعلى رغم توقيع "تالس" على الميثاق العالمي للأمم المتحدة، الذي يُلزم الشركات عدم التواطؤ في انتهاكات حقوق الإنسان، فإن التحقيق يُظهر أن الشركة خرقت هذه المبادئ. فقد استند التحقيق إلى 12 فاتورة موجهة إلى شركتي "الصناعات الجوية الإسرائيلية" و"إلبت سيستمز"، وكلتاهما من أكبر مزودي الجيش الإسرائيلي بالطائرات من دون طيار، من طرازات مثل "هيرون تي بي" و"هيرميس"، المتهمتين باستخدامهما في هجمات أودت بحياة مدنيين على مدى نحو 15 عاماً.
وعندما تواصل موقع "ديسكلوز" مع الشركة، أكدت الأخيرة بيع مكونات إلى "كيانات إسرائيلية"، مع تقليلها من تأثير هذه "الأنظمة المحمولة جواً" في الاتصالات.
في السياق ذاته، أشار التحقيق إلى أن طائرات "هيرون" كانت تحلق فوق غزة قبل عملية "الجرف الصامد" عام 2014. وكانت الطائرات المسيّرة تحلق فوق قطاع غزة على مدى أسبوعين متواصلين. ووفقاً لشهادة أحد القادة السابقين في القوات الجوية الإسرائيلية، الذي كان يشرف على سرب طائرات "هيرون"، كانت المهمة واضحة: جمع معلومات استخباراتية دقيقة تمهيداً لبدء العمليات القتالية.
في أغسطس (آب) 2022، شنت إسرائيل عملية "الفجر الصادق"، إذ اعتمد سلاح الجو الإسرائيلي بصورة رئيسة على طائرات "هيرميس 450"، التي نفذت أكثر من 2000 ساعة طيران بهدف تحديد الأهداف بدقة. وعلى رغم الادعاءات الإسرائيلية بأن العملية هدفت إلى تقليل الخسائر البشرية، فقد أسفرت، بحسب مصادر فلسطينية، عن مقتل 49 فلسطينياً، من بينهم 17 طفلاً.
وكانت طائرات "هيرون"، المزوّدة بأحدث أنظمة الرصد والاستشعار، تُقدَّم باعتبارها وسيلة تكنولوجية متقدمة لتنفيذ ضربات دقيقة تستهدف المواقع العسكرية فقط. غير أن الواقع الميداني أظهر تناقضاً صارخاً مع هذه الادعاءات، إذ تصاعدت أعداد الضحايا المدنيين وتكررت الهجمات على مناطق سكنية مكتظة، مما يثير شكوكاً جدية حول مدى التزام الجيش الإسرائيلي قواعد القانون الدولي الإنساني. وعلى رغم ما خلّفته العملية من دمار وخسائر بشرية، استمر التعاون بين شركات التسليح الأوروبية وإسرائيل. ففي الـ13 من يناير (كانون الثاني) 2023، أي بعد خمسة أشهر من عملية "الفجر الصادق" التي استهدفت قطاع غزة، أصدرت الشركة الفرنسية فاتورة بقيمة 98 ألف يورو لمصلحة شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، لشراء جهاز إرسال واستقبال من نوع "تي أس سي 4000"، إضافة إلى معدات لاختبار أدائه.
وفي يونيو وسبتمبر (أيلول) من ذلك العام، صدرت فواتير أخرى لشراء جهازَي رادار ارتفاع وقطع غيار لهما، إضافة إلى جهازَي إرسال واستقبال من نوع "تي أس سي 2055"، وتضاف هذه الشحنات إلى شحنتين من أجهزة الإرسال والاستقبال وخمسة رادارات مضادة للتصادم، أُرسلت بين الـ27 من فبراير 2018 والـ26 من فبراير 2021، إلى قسم الطائرات المسيرة بشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية.
تُظهر هذه الصفقات، التي تجاوزت قيمتها الإجمالية 1.2 مليون يورو، تورط "تاليس" في دعم أحد المكونات الأساسية في المنظومة العسكرية الإسرائيلية: الطائرة المسيّرة "هيرون تي بي"، التي دخلت الخدمة في الجيش الإسرائيلي عام 2007. وإضافة إلى تزويدها بخمسة رادارات مضادة للتصادم، تضمنت العقود سلسلة اختبارات وتدريبات تقنية نفذها مهندسون تابعون للشركة الفرنسية.
جدير بالذكر أن طائرات "هيرون تي بي" أدت دوراً محورياً في الهجوم الإسرائيلي على غزة في مايو 2021، في ما عُرف بـ«عملية حارس الأسوار" وفق التسمية الإسرائيلية، أو "معركة سيف القدس" كما سمتها الفصائل الفلسطينية. وخلال هذا النزاع العسكري، الذي اندلع في الـ10 من مايو واستمر 11 يوماً، نفّذت القوات الإسرائيلية قصفاً مكثفاً استهدف، بحسب تقارير إعلامية ومنظمات حقوقية، منشآت مدنية من بينها مدارس وعيادات ومبانٍ سكنية تقع بعيداً من الأهداف العسكرية.
ووثّقت وزارة الصحة في غزة مقتل 243 فلسطينياً، بينهم 66 طفلاً، وإصابة أكثر من 1900 مدني، بينما قُتل على الجانب الإسرائيلي 12 شخصاً، من بينهم طفلان" وعلى رغم هذا السجل الدموي، استمرت شركة "تاليس" في تسليم معداتها، مما يثير قلقاً بالغاً حيال مدى التزامها واجب اليقظة والمسؤولية تجاه حماية حقوق الإنسان. فبموجب قانون صدر عام 2017، تُلزم المجموعة باتخاذ كل التدابير اللازمة لضمان احترام حقوق الإنسان ضمن سلسلة التوريد الخاصة بها، وإلا فإنها قد تواجه مساءلة قانونية وملاحقة قضائية.
توضيح الوزارة
من جهتها أكدت وزارة أوروبا والشؤون الخارجية أن جميع طلبات تصدير المعدات العسكرية تخضع لفحص دقيق وشامل على مستوى الوزارة، انطلاقاً من التزامات فرنسا الدولية، لا سيما معاهدة تجارة الأسلحة، إلى جانب الاتفاقات الدولية التي تمنع استخدام أنواع معينة من الأسلحة، فضلاً عن إجراءات الحظر الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وأوضحت الوزارة أن هذه الآليات تهدف إلى ضمان عدم قبول أي طلب تصدير يتعارض مع الالتزامات الوطنية والأوروبية والدولية، مشددةً على أن عملية التقييم تطبق بحذر بالغ على جميع الصادرات، بما في ذلك تلك الموجهة إلى إسرائيل.
وأرجعت الوزارة وجود هذا التدفق إلى الدور المتنامي للصناعة الدفاعية الإسرائيلية، التي تعتمد على تجميع وتصدير منتجات تعزز قدرات الدفاع لدى شركاء فرنسا. أما بالنسبة إلى الجزء الضئيل جداً من الصادرات الموجهة فعلياً إلى القوات المسلحة الإسرائيلية، فقد أكدت الوزارة أن هذه الصادرات تتم فقط ضمن ضوابط دفاعية صارمة.
وشددت الوزارة على أن تصدير مكونات المعدات من الفئة "ML4"، التي تشمل الأسلحة المتفجرة مثل القنابل والصواريخ، والأجهزة والمتفجرات المرتبطة بها، إضافة إلى المواد والملحقات المصاحبة، مسموح به فقط في ظل شروط دقيقة وصارمة. وبناءً عليه، أوضحت الوزارة موقفها الرافض بصورة منهجية أي تصدير لمعدات قد يُساء استخدامها بما يخالف القانون الدولي الإنساني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على الجانب سياسي
في توصيفه الموقف الفرنسي من القضية الفلسطينية، يرى الباحث السياسي نبيل شوفان أن "باريس تسعى بالدرجة الأولى إلى الحفاظ على تماسك مجتمعها الداخلي، عبر تبنّي دبلوماسية متوازنة، انسجاماً مع التقليد الجمهوري الذي لا يعترف بالفوارق الهوياتية، كذلك يرى أن ضمان أمن إسرائيل لا يتم بالقوة، بل عبر مسار سياسي يعيد الحقوق للفلسطينيين". وأضاف شوفان، "من الواضح أن الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة قد أثارت انقساماً واسعاً في المجتمع الفرنسي، فبينما يشعر جزء من اليهود الفرنسيين بتصاعد مشاعر معاداة السامية التي باتت تهدد أمنهم الشخصي، وقد تكررت حوادث غذّت هذه المخاوف، فإن الذاكرة الجماعية لليهود في فرنسا لا ترتبط فقط بالصراع في الشرق الأوسط، بل تتجذر في تاريخ مؤلم يعود إلى الحرب العالمية الثانية".
وأكد نبيل شوفان أن "كثيراً من الفرنسيين المتضامنين مع القضية الفلسطينية، ومن ضمنهم عدد متزايد من مؤيدي إسرائيل التقليديين، يعتقدون أن هناك مبالغة في الخوف من معاداة السامية، تدفع السلطات والإعلام إلى ممارسة رقابة ذاتية عند تناول الانتهاكات الإسرائيلية. ويشير هؤلاء إلى خلط شائع بين انتقاد سياسات الحكومة الإسرائيلية ومعاداة السامية، وهو مما أدى إلى اتساع الفجوة بين المفهومين، مما أثر سلباً في العلاقات الاجتماعية، وخلق توترات داخل العائلات، وبين الأصدقاء وزملاء العمل".
من الناحية العسكرية، يؤكد شوفان أن "فرنسا ليست مورداً رئيساً للسلاح إلى إسرائيل، إذ لا تتجاوز صادراتها 0.5 في المئة من إجمال صادراتها الدفاعية، مع تركيزها على مكونات دفاعية مثل منظومة 'القبة الحديدية' وقطع الغيار. لكن التحقيقات كشفت عن أن بعض هذه المكونات مثل أجهزة الإرسال والاستقبال، قد تُستخدم مباشرة من قبل الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك في طائرات 'هيرميس 900' من دون طيار".
ويعتبر شوفان أن "الرأي العام الفرنسي، بما في ذلك شريحة من داعمي إسرائيل تقليدياً، لم يعد يتقبل استمرار المجازر في حق المدنيين في غزة، وبخاصة النساء والأطفال. حتى إن قطاعات من الجالية اليهودية بدأت تعبر عن مواقف ناقدة للحكومة الإسرائيلية الحالية. كذلك رفعت منظمات غير حكومية دعاوى قضائية لتعليق تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، على رغم أنه لم تُثبت أي تواطؤ فرنسي مباشر في انتهاك القانون الدولي الإنساني، أو تصدير أسلحة هجومية كما تفعل بعض الدول الغربية الأخرى".
على الصعيد السياسي، شدد الرئيس ماكرون على ضرورة وقف تصدير الأسلحة المستخدمة في النزاعين الجاريين في غزة ولبنان، معتبراً أن هذه الخطوة "الوسيلة الوحيدة" لوقف التصعيد، في موقف أثار توتراً مع الحكومة الإسرائيلية. وأكد وزير الدفاع لوكورنو بدوره أن فرنسا شددت منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 القيود على صادراتها نحو إسرائيل.
كما قال شوفان إن "الرئيس ماكرون حذر من أن استمرار حظر إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة قد يدفع فرنسا إلى تبنّي موقف أكثر تشدداً تجاه إسرائيل، قد يشمل فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين وبعض الوزراء المتطرفين في الحكومة الحالية".
ويرى شوفان، من المنظور الأوروبي، أن "باريس منذ تصاعد الحرب الإسرائيلية على غزة، تتصدر المطالبات بوقف تصدير الأسلحة الهجومية التي تُسهم في إطالة أمد الصراع. وقد أوقفت بالفعل بعض الدول، مثل إسبانيا، جزءاً من صادراتها. كذلك تقود فرنسا إلى جانب السعودية جهود الاعتراف بدولة فلسطينية كحل سياسي دائم، على رغم استمرار معارضة بعض الدول الأوروبية، كألمانيا، التي ترى أنه لا يجب وقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الوقت الراهن".
وتسعى باريس إلى بلورة موقف أوروبي موحد يدعم اقتراحها، وقد شكّلت تحالفاً مع بريطانيا وكندا لإصدار بيان ثلاثي غير مسبوق، حمل لهجة حادة، وضم تهديدات صريحة لإسرائيل، "لن نقف مكتوفي الأيدي إزاء أفعال حكومة نتنياهو"، مع تلويح باتخاذ "إجراءات ملموسة إضافية" إن لم تتوقف العمليات العسكرية وتُرفع القيود عن المساعدات.
وعلى رغم التوترات، تحرص فرنسا على الحفاظ على التوازن في علاقتها مع إسرائيل، التي تبقى شريكاً استراتيجياً. ففي يناير 2025، أكد ماكرون لنتنياهو أن الشركات الإسرائيلية مرحَّب بها في معرض باريس الجوي، شريطة ألا تعرض معدات هجومية استُخدمت في النزاعات الأخيرة، في موقف يجسد التزام باريس القانون الدولي الإنساني. كذلك أبدت فرنسا نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في خطوة من شأنها تعميق الخلاف مع تل أبيب.
وتشير التصريحات الأخيرة إلى تحوّل في الخطاب الفرنسي تجاه إسرائيل. إذ أعلن وزير الخارجية جان نويل بارو، في يونيو الجاري، أن "فرنسا عازمة على الاعتراف بدولة فلسطين"، مشدداً على ضرورة إنهاء دائرة العنف التي تطاول أطفال غزة، قائلاً "لا يمكننا أن نترك لأطفال غزة إرثاً من الكراهية والعنف".
يعكس هذا الموقف قناعة باريس بأن أمن إسرائيل يجب أن يرتكز على حل سياسي يشمل إقامة دولة فلسطينية تعيش بسلام إلى جانبها. وعلى رغم أن فرنسا أسهمت في صد الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل العام الماضي، فإنها ترى أن الحرب الدموية التي أودت بحياة عشرات آلاف الأطفال في غزة تستدعي تحركاً سياسياً عاجلاً.
ختاماً، تصريحات الحكومة الفرنسية في شأن صادرات الأسلحة إلى إسرائيل لم تمر مرور الكرام، إذ واجهتها موجة تشكيك واسعة من قِبل نواب المعارضة، الذين اتهموا السلطة التنفيذية بانعدام الشفافية. رئيسة كتلة "فرنسا الأبية" (يسار متطرف)، ماثيلد بانو، ذهبت إلى حد وصف ما يحدث بأنه "فضيحة ضخمة"، داعية إلى محاسبة سياسية عاجلة.
وفي الـ29 من مارس (آذار) 2024، تحرك أكثر من 70 نائباً في الجمعية الوطنية (البرلمان)، مقدّمين مقترحاً رسمياً لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية حول ما وصفوه بـ"تورط محتمل لفرنسا في جرائم حرب ارتُكبت في غزة". بالتوازي، وقع 115 نائباً رسالة موجّهة إلى الرئيس ماكرون، يطالبون فيها بوقف فوري وشامل لجميع صادرات الأسلحة إلى إسرائيل.
لم تقتصر التحركات على البرلمان، ففي أبريل 2024، رفع ائتلاف مكوّن من 11 منظمة غير حكومية، من بينها "منظمة العفو الدولية" والجمعية الفرنسية للتضامن مع فلسطين، ثلاث دعاوى قضائية أمام المحكمة الإدارية في باريس، مطالبين بتعليق فوري لرخص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، على خلفية الاشتباه في استخدامها ضد المدنيين في غزة، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.
فهل تكتفي باريس بذريعة "إعادة التصدير" لتغضّ الطرف عن مصير الذخائر الفرنسية في ساحة مشتعلة كغزة؟ أم يجب عليها تشديد الرقابة؟
المفارقة أن فرنسا، التي جمّدت تراخيص تصدير السلاح إلى إسرائيل خلال الانتفاضتين الأولى (1987-1993) والثانية (2000-2005)، تبدو اليوم أكثر تردداً في اتخاذ مواقف مماثلة، على رغم حجم الكارثة الإنسانية. وبين اعتبارات السياسة والمصالح، يظل سؤال المسؤولية الإنسانية معلقاً.