ARTICLE AD BOX
علي الياسري
تُظهر افلام المخرجة كلير دوني ارتباط موضوعاتها السابحة في فلك الانسان ككيان أسمى يمتلك حكايته الخاصة المختلفة وفق خصوصية التجربة في الحياة والموت وما بينهما من رحلة بتجليات وجوده وخط سيره الفريد. ميزة سينماها ان الجسد يحتضن البيئة التي ينشأ فيها، قد يتنافر معها او يتمازج كل ذلك يتبع الروح وتقلبات الظروف المحيطة لكنه لن ينقطع عنها. يمكنك سماع كل الترددات التي تجوب اثيرها وفق دفقات نسغ مدهش لمزيج الصورة والصوت تتلقف الشكل الفيزيائي لتأخذ حيزها من المادة فتكون بشرًا مرة تتنوع ألوان بشرته او في اخرى نباتات واشجار وحيوانات ترسم وجه الحضارة المحلية للقصة او رمالًا وهضاب وجبال وقفار تستوطنها ذوات ادمية لتُشكِّل جزءًا اصيلا منها مهما اتسع مدى الاغتراب الذي يتجلى كثيرًا في تلك المساحات الضيقة للكتل الخرسانية. كل ذلك يدور في سؤال الهوية وأين تمتد جذور الانتماء؟ وما هي عوامل وجوده التي قد لا تسكن سوى في مخيلة شاعرية رصدتها الروح بلحظة براءة.
كلير ذكية بصريًا وقادرة على إلهام معاني الصورة بشكل مدهش من خلال اعتنائها بالتفاصيل الناشئة عن حساسية شعورية تفيض بواقع حسي يتحرك في مسارب الصمت وحديث العيون. فهي تمتلك القدرة الفنية المميزة لنحت حكاية فيلمها من خلال اشتغالات الجسد وتوقده على رمضاء العواطف. لديها ايضا الامكانيات التعبيرية اللازمة لإظهار وهج المشاعر بفيض الغريزة. فمن نوازع الرغبات تحيط بإطار التاريخ الشخصي للكاركتر في لحظته الزمنية العامة الفارقة. تداخل الموضوعات لا يبدو الا من خلال طغيان الجانب الفردي لطبيعة ومسار الشخصيات في الحكاية، فالسياسة والواقع الاجتماعي والعلاقات تشكلها مدى الاقتراب من قيود الارتباط بين الذاكرة والحدث. لتُظهر مع تنامي السرد تلك العلاقة الاشكالية بين الكولونيالية لبلدها الام فرنسا وبين انتماءها بحكم الولادة والنشأة لتلك الارض الافريقية المُستعمَرة، كما تُظهره العديد من افلامها التي تنهل من الجانب العاطفي للحكاية لمد جسور التواصل مع المشاهد فتبني ذلك بالنماء الدرامي للحب والرغبة والتوق الجسدي في رصد ملفت سرديًا لتعقيد التداخل بين الشخصي والعام من الوقائع والمواقف. ان سينماها من الممكن اعتبارها بمثابة دراسة لمكانة الافراد داخل المجتمع وبيئته وكيف يؤثر المكان (المنزل/الوطن) على تفاعلاتهم وسلوكهم بغض النظر عن أي انتماء سوى التماهي بين الادمية والطبيعة الحرة.
برصد يجول على حيثيات النفوس من خلال تمثّلات الجسد شكلَّ فيلمها الاول (شوكولا) رابط مع ذلك الخط الوهمي الفارز لثنائيات الكائنات والموجودات. تُلقي نظرة مستعادة في سيرة شبه ذاتية للحياة التي عاشتها في الكاميرون غداة الزمن الاستعماري الفرنسي. من رمزية العنوان للفيلم تكون كل الاشياء بمعنى ظاهر وباطن حيث الطعم الحلو مقدمة للثراء الحسي والنهم المتولد. بين المعلن والمخبوء تحركت الرغبات والمشاعر والمزاج التاريخي للحظة العيش. فمن العنصرية اللونية نحو الاستعلاء الحضاري يقدم الهاجس الجسدي والرغبة الحلم اقرب النقاط للافتتان واللقاء ما بين فرنسا ومستعمراتها الافريقية. كلير تتأمل ماضيها فتلتقط الواقع فيه لتصوغه خيال يُعبِّر عن مكنون الشخصيات المُتحركة تحت ظلال تمثلها ثنائيات الحاكم والمحكوم حيث الاستعمار ومناهضته، غير انها لا تركن لموضوعات السياسة بقدر ما تضعها حجر زاوية تنطلق منه لتطرح التشاكل مع مفاهيم الاجتماع والاقتصاد والثقافة والحضارة وتأثير كل ذلك على التواصل بين الرجل والمرأة كأسمى نموذج علاقات يحكم الوجود البشري.
في (شوكولا) نرى ان (فرنسا) المرأة/دوني تزاول الحنين الى الطفولة في القارة السمراء وبالتحديد الكاميرون حيث العواطف والذاكرة هي المرجع لموضوعات الفيلم الساعية لخلق الحكاية عن التعقيدات الاستعمارية ومظاهر الهيمنة بتجلياتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية. انها اوتاد الحواجز العرقية والاجتماعية بين الحاكم والمحكوم التي تقطع الطريق على الانجذاب الانساني الممتد من ايمي الزوجة الفرنسية المكبلة بالرتابة والوحدة وضعف التواصل العاطفي الى بروتيه الخادم الافريقي الذي يمثل صمته ومراقبته المكتومة صورة العلاقة المأزومة بين المُستَعمِر والمُستَعمَر. فهو مرآة منعكسة للضغط الكامن والتناقضات السلوكية ما بين جنسي وعنصري والتي تضطرم خلف واجهة وادعة للكولونيالية بيد انها مثل وجه بروتيه تُخفي غضبًا مكبوتًا.
لقد كانت قدرة المخرجة دوني في السرد السينمائي الخلاق للحقائق الغامضة والمُلتبسة بالتواصل الانساني ومدى المشاعر المحيطة بها هو الافق المنظور وغير الملموس لتلاقح الثقافات المفروضة او المرغوبة بما تتضمنها من برية فاتنة تدفع لجنون المغامرة في حدها الاقصى وهو ما يسمح لطيف واسع من الانفعالات الشعورية بالتمظهر كواجهة لجوهر الشخصيات، في استقصاء مدهش ولذيذ للزوايا المظلمة بالذات الانسانية.
ان الرؤية السينمائية لفيلم شوكولا تسعى الى توظيف المكان كبيئة واعية وفاعلة في السرد حين تستغل دوني تنوع اللقطات وزوايا الكاميرا لخلق الاحساس العاطفي للحظة فتؤطر الطبيعة بلقطات واسعة تمثل واجهة رمزية للحرية المطلقة والغموض الاسر المحيط بناسها الذين تدنو منهم بلقطات مقربة تحاول ان تستبين افكارهم وامالهم واحلامهم وطموحاتهم ازاء واقع استعماري مفروض تعكسه المنازل بمظاهر السطوة الجنسية المكبوتة والواقع المتوتر المبني على مفاهيم الاستعلاء والسيطرة والاستحواذ للكولونيالية بأوسع تجلياتها.
يقدم عروج المخرجة دوني الى ذاكرتها من بوابة الطفولة صورة لمسعى تحاول فيه ان تقارن نضج البلوغ في النظر للأشياء والوقائع والشخوص من خلال اطلالة رؤى البراءة في الصِغَر التي تُصفي فضاء المشاعر والاحاسيس والعواطف من ضبابية المظاهر سوى رصد للمتناقضات والتباين الكبير للعلاقات والتواصل -المرتكز على واقع استعماري- بين الحب والتجاهل، والعنصرية والمساواة، والرغبة والزهد حيث تدور كلها في دوامة هوس السلطة والاستحواذ.
The post (فيلم شوكولا).. تأسيس نموذجها الانساني appeared first on جريدة المدى.