ARTICLE AD BOX
لم أكن أتوقّع، وأنا أتصفّح روايات سمر يزبك وروزا ياسين حسن، أن أجد نفسي غارقة في عالم من التساؤلات حول علاقة السلطة بالجسد الأنثوي في سورية. كانت الكلمات تنساب على الصفحات شهادات حيّة على معاناة لم تُروَ بعد، وقصص تختبئ خلف ستار الصمت الثقيل الذي خيّم على المشهد السوري لعقود.
في خضم الصراعات السياسية والاجتماعية التي مزّقت النسيج السوري، برزت قضية توظيف السلطة لأجساد النساء كجرح غائر يصعب التئامه. لم تكن هذه القضية مجرّد انعكاس للواقع السياسي المتأزّم، بل كانت أيضاً تعبيراً عن منظومة اجتماعية وثقافية متجذّرة تُمارِس سلطتها على أجساد النساء بطرق تتراوح بين القمع الصريح والتحكّم الناعم.
أحاول في هذه المقالة أن أقدّم قراءة نسوية لهذه الظاهرة المعقّدة، متخذة من الروايات السورية المعاصرة نافذة أطلّ منها على واقع النساء السوريات. لا أدّعي الحياد هنا، فالقراءة النسوية بطبيعتها موقف سياسي وأخلاقي، لكنني أسعى إلى تفكيك خطاب السلطة، وكشف آلياته في السيطرة على الجسد الأنثوي، مستندة إلى نصوص روائية تجاوزت حدود المسكوت عنه في الثقافة السورية.
الجسد والسلطة: جدلية لا تنتهي
"كان جسدي سجناً وساحة معركة في آن واحد"... هكذا هي علاقة إحدى شخصيات رواية "حراس الهواء" لروزا ياسين حسن، بجسدها في ظلّ سلطة سياسية قمعية وسلطة اجتماعية خانقة. هذه العبارة تلخّص جوهر العلاقة المُتشابكة بين السلطة والجسد في المجتمع السوري، حيث يتحوّل الجسد الأنثوي إلى ساحة للصراع والهيمنة.
منظومة اجتماعية وثقافية متجذّرة تُمارِس سلطتها على أجساد النساء بطرق تتراوح بين القمع الصريح والتحكم الناعم
لقد لاحظت، من خلال قراءاتي المتعدّدة، أنّ السلطة في سورية (سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية) لم تكتفِ بالسيطرة على المجال العام، بل تغلغلت إلى أعمق الفضاءات الخاصة، وصولاً إلى الجسد. وقد تجلّت هذه السيطرة بأشكال متنوعة، من العنف المباشر إلى الرقابة الذاتية التي تستبطنها النساء نتيجة منظومة قيمية تحكم تصوّراتهن عن أجسادهن.
"صلصال" لسمر يزبك: عندما يتحول الجسد إلى أداة للقمع
عندما قرأت رواية "صلصال" لسمر يزبك للمرّة الأولى، صدمتني جرأتها في تعرية السلطة العسكرية وكشف وحشيتها. تدخل يزبك في هذه الرواية إلى منطقة محرّمة في الأدب السوري، يتجلّى فيها استكشاف مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي التي كانت مرحلة زمنية غير مُستحضرة وشبه غائبة في الكتابات المعاصرة بفعل الرقابة الشديدة والسلطة.
تروي الرواية قصة "علي حسن"، ذلك الشاب الفقير القادم من الريف، الذي منحه انضمامه للجيش سلطة مطلقة، ليمارس من خلالها قمعاً وعنفاً على أجساد النساء. وتكشف الرواية بوضوح كيف تتحوّل السلطة العسكرية إلى أداة للسيطرة على الجسد الأنثوي، ليس فقط من خلال العنف الجسدي المباشر، بل أيضاً من خلال الإذلال والإهانة والتحكّم في حركة النساء في المجال العام. ما يميّز رواية "صلصال" هو قدرتها على تصوير التداخل بين السلطة السياسية والسلطة الذكورية، وكيف تتحالفان معاً لقمع النساء. فشخصية "علي حسن" ليست مجرّد رمز للسلطة العسكرية، بل هي أيضاً تجسيد للسلطة الذكورية التي تستمد شرعيتها من منظومة قيمية تقليدية تنظر إلى المرأة كتابع وليس كندّ.
"حراس الهواء" لروزا ياسين حسن: الجسد بين السياسي والجنسي
تنتقل بنا رواية "حراس الهواء" للكاتبة السورية روزا ياسين حسن إلى بعد آخر من أبعاد العلاقة بين السلطة والجسد. الرواية، التي صدرت عام 2009 عن دار الكوكب الشقيقة لدار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت، تروي قصّة علاقة معقدة بين سجين سياسي سابق وحبيبته، وتكشف عن الآثار النفسية والجسدية للقمع السياسي. وتكشف الرواية عن بعد آخر من أبعاد سيطرة السلطة على الجسد، حيث لا يقتصر الأمر على العنف المباشر، بل يمتد إلى تشويه العلاقة بالجسد وتدمير القدرة على التواصل الجسدي والعاطفي. السلطة هنا لا تكتفي بقمع الجسد، بل تسعى إلى تدمير علاقة الإنسان بجسده وبأجساد الآخرين.
ما يميّز رواية "حراس الهواء" هو قدرتها على كشف العلاقة المُتبادلة بين الكبت السياسي والكبت الجنسي. فالسلطة السياسية، من خلال ممارساتها القمعية، تؤثّر بشكل مباشر على الحياة الجنسية والعاطفية للأفراد، وتحول دون قدرتهم على بناء علاقات صحية وحميمية.
لا تكتفي السلطة بقمع الجسد، بل تسعى إلى تدمير علاقة الإنسان بجسده وبأجساد الآخرين
لا تقتصر أشكال توظيف السلطة لأجساد النساء في سورية على العنف المباشر والقمع، بل تتعداها إلى أشكال أخرى من الإقصاء والتهميش التي تستهدف إقصاء النساء عن الفضاء العام، والتي تستند إلى مبادئ اجتماعية تتجاهل كفاءة المرأة المهنية وتضعها في إطار ثانوي في المجتمع. وفي مواجهة هذه الأشكال المتعدّدة من توظيف السلطة لأجساد النساء، تبرز المقاومة النسوية كفعل مضاد للسلطة. وتتخذ هذه المقاومة أشكالاً متعدّدة، من بينها الكتابة الروائية التي تسعى إلى تفكيك آليات السلطة وكشف أساليبها في السيطرة على أجساد النساء.
تمثّل روايات سمر يزبك وروزا ياسين حسن وغيرهما من الكاتبات السوريات نموذجاً لهذه المقاومة النسوية. فمن خلال الكتابة، تسعى هؤلاء الكاتبات إلى تعرية السلطة وكشف آلياتها في السيطرة على أجساد النساء، وفي الوقت نفسه تقديم رؤية بديلة تؤكّد حقّ المرأة في جسدها وحرّيتها.
لكن المقاومة النسوية لا تقتصر على الكتابة فقط، بل تتعداها إلى أشكال أخرى من النشاط السياسي والاجتماعي. فقد شهدت سورية، خاصة بعد انتفاضة 2011، ظهور العديد من المبادرات والمنظّمات النسوية التي تسعى إلى تمكين النساء ومقاومة أشكال القمع والتمييز المختلفة.
الكتابة، خاصة الكتابة عن الجسد، هي فعل سياسي مضاد للسلطة
من بين هذه المبادرات، مشروع "نساء سوريات من أجل الديمقراطية"، والذي يسعى إلى تعزيز مشاركة النساء في الحياة السياسية والعامة. كما ظهرت مبادرات أخرى تركّز على توثيق انتهاكات حقوق النساء في سورية، مثل مشروع "لا تنسوهن" الذي يوثّق قصص النساء المُعتقلات والمُختفيات قسرياً. هذه المبادرات، إلى جانب الكتابة النسوية، تشكّل جزءاً من حركة مقاومة أوسع تسعى إلى تفكيك آليات السلطة وبناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة. وهي تعكس إيماناً عميقاً بأنّ تحرير المجتمع لا يمكن أن يتحقّق من دون تحرير النساء وأجسادهن من قبضة السلطة. إنّ النضال النسوي من أجل تحرير أجساد النساء من قبضة السلطة ليس نضالاً هامشياً أو ثانوياً، بل هو جزء أساسي من النضال الديمقراطي الأوسع. وهو نضال يتطلّب تفكيك البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تكرّس سيطرة السلطة على أجساد النساء. الروايات السورية المعاصرة، خاصة تلك التي كتبتها نساء، تقدّم لنا نافذة مهمة لفهم آليات هذه السيطرة وسبل مقاومتها. وهي تذكرنا بأنّ الكتابة، خاصة الكتابة عن الجسد، هي فعل سياسي مضاد للسلطة، وخطوة مهمة نحو بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة.
في النهاية، أعتقد أنّ قراءة نسوية لتوظيف السلطة لأجساد النساء في سورية ليست مجرّد تحليل أكاديمي أو نقدي، بل هي أيضاً دعوة للعمل والمقاومة، دعوة لتفكيك آليات السلطة وكشف أساليبها في السيطرة على أجساد النساء، وفي الوقت نفسه بناء مجتمع جديد يقوم على المساواة والعدالة والحرية.