ARTICLE AD BOX
التزمت الحكومة المصرية بعدم الرد على مطالبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مصر وبنما بالسماح للسفن الأميركية بالمرور عبر قناتي بنما والسويس مجانا ودون دفع رسوم عبور، وادعى ترامب أن هاتين القناتين ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأميركية. وفي ظل الصمت الرسمي المريب والمعاكس للرد البنمي الشجاع، نقلت مواقع إخبارية محلية وعربية وأجنبية دفاع قيادات أحزاب سياسية مصرية وسياسيين وكتاب رأي مصريين عن استقلال قناة السويس ومصريتها في مواجهة مطالب ترامب.
وتركز الدفاع حول اتهام ترامب بالاستعلاء والغباء والاستفزاز والجهل بمبادئ القانون الدولي، الذي يؤكد حياد القناة والمساواة في تحصيل الرسوم، والطمع في دخل القناة التي تخدم 12% من تجارة العالم، والتأكيد على أن المصريين وحدهم هم الذين حفروا القناة، ونفي أي فضل للولايات المتحدة في حفرها، وأن القناة بنيت في وقت كانت فيه أميركا غارقة في الحرب الأهلية وفي عزلة عن بناء مقومات النهضة الصناعية.
ومنهم من ادعى أن تصريحات ترامب ستمضي إلى مصير سابقاتها، من صفقة القرن والناتو العربي وضم كندا وجزيرة غرينلاند لبلاده، فورة تنطفئ، وضجيج يخفت، دون أن يتركا أثرًا ملموسًا في معادلات القوة والسيادة. متأثرين بدفاع الكتاب الغربيين عن بنما ضد ادعاء ترامب بحق الولايات المتحدة في القناة التي بنتها في سنة 1904 مبررا غير قانوني لعبور سفن بلاده عبرها مجانا أو إعادة الاستيلاء عليها.
ترامب ومحاربة النفوذ الصيني
فات الكثيرين من هؤلاء وأولئك أن هجوم ترامب على حكومة بنما ومطالبته بالسماح للسفن الأميركية بالمرور المجاني عبر القناة كان غطاءً لتقويض النفوذ الصيني في القناة، وانتهى ذلك الهجوم بإعلان شركة إدارة الأصول الأميركية العملاقة بلاك روك مفاجأة الاستحواذ على ميناءين في طرفي قناة بنما بالشراء من شركة سي كيه هاتشيسون الصينية، وإنهاء وجودها في القناة تماما.
وهو الاستحواذ الذي فسر اتهام ترامب حكومة بنما بتمكين الصين من بسط نفوذها في الممر المائي الحيوي الذي يخدم 40% من تجارة الولايات المتحدة ويرفد القناة بـ75% من مواردها، وأن الصين تستخدم استثماراتها وخدماتها في مرافق القناة غطاءً للتحكم في تشغيل القناة، وأن أميركا لم تسلم القناة للصين التي تخوض حربا اقتصادية معها، وبالتالي يأتي تهديده بإعادة فرض سيطرة بلاده بالكامل على القناة ولو بالقوة العسكرية، لتحرير القناة مما اعتبره نفوذًا صينيًا، وليس طمعا في المرور المجاني لسفن بلاده عبر القناة.
وهو الاستيلاء الذي أغضب الصين وانتقدته علنًا، فأعلنت إدارة الدولة لتنظيم السوق الصينية الحكومية عن خططها لمراجعة الصفقة والتأكد من أنها لا تنتهك قوانين مكافحة الاحتكار الصينية أو تضر بمصالحها الوطنية، وعندما سُئلت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماو نينغ، في مؤتمر صحافي دوري عما إذا كانت الصين تحقق في صفقة بيع شركة سي كيه هاتشيسون المزمعة، ردت بأن الصين تعارض بشدة استخدام الإكراه الاقتصادي والهيمنة والتنمر لانتهاك الحقوق والمصالح المشروعة للدول الأخرى.
هذا الإجراء أخّر إتمام الصفقة أسبوعين ولكنه لم يفشلها. ووصفت وسائل الإعلام الموالية لبكين الصفقة بأنها خيانة للصين وتعاون مثالي وتواطؤ مع استراتيجية الولايات المتحدة لاحتواء الصين. وعارض جون لي، رئيس هونغ كونغ، دولة مقر الشركة الصينية، الصفقة، وقال إنه يرفض استخدام الإكراه وتكتيكات التنمر في العلاقات الدولية والاقتصادية والتجارية.
عبّر ترامب عن غضبه من ملكية شركة سي كيه هاتشيسون الصينية لميناءي بالبوا وكريستوبال باعتبارها تشكل مخاطر جيوسياسية حرجة للولايات المتحدة في قناة بنما التي تُعدّ من أكثر المواقع حساسيةً جيوسياسيةً وتجاريةً في العالم. ورغم احتفاظ هيئة القناة بالسيطرة السيادية على التشغيل، فإن وجود هاتشيسون على طرفي القناة يُتيح لها الوصول الفعلي والرؤية التشغيلية للحركات التجارية والبحرية التي تمر عبر هذا الممر البحري الحيوي والتي يعود معظمها للولايات المتحدة. كما يُثير هذا الموقع مخاوف بشأن كشف البيانات ومراقبة العمليات اللوجستية ونقلها للصين.
بالإضافة إلى ذلك، تواجه الولايات المتحدة، خلال أوقات الأزمات أو التوترات المتزايدة، ضعفًا غير متكافئ تجاه الاضطرابات أو الانسدادات في القناة التي قد تؤثر بشكل كبير على كل من تدفقات التجارة والتنقل العسكري بين المحيطات، في وقت تمر فيه 40% من حركة الحاويات الأميركية عبر قناة بنما على مدار الساعة، ما يجعل الانقطاع ضارًا بشكل خطير باقتصاد الولايات المتحدة وأمنها القومي أكثر بكثير من انسداد قناة السويس عام 2021 البعيدة مكانا ومكانة عن حركة التجارة الأميركية.
ويؤدي وجود هاتشيسون في هذا الموقع إلى تفاقم هذا الخطر من خلال وضع مشغل مرتبط بالحكومة الصينية في موقع نفوذ داخل القناة. ويمكن أن يتسبب فقدان الولايات المتحدة الوصول إلى قناة بنما في تأخيرات تراوح بين عشرة أيام و22 يومًا إذا اضطرت السفن للمرور عبر مضيق ماجلان بدلاً من ذلك. كما أن التعطيل المؤقت لتشغيل القناة يمكن أن يحد بشدة من قدرة الولايات المتحدة على نقل القوات بين مسرحي الأطلسي والمحيط الهادئ استجابةً لحادث أو أزمة.
الاستحواذ على مرافق في قناة السويس
أخطر ما في صفقة بلاك روك الأميركية أنها تتخطى قناة بنما وتتضمن شراء حصص شركة سي كيه هاتشيسون الصينية المملوكة لقطب الأعمال الصيني العجوز لي كا شينج، البالغ من العمر 97 سنة، في 43 ميناء في 23 دولة، في قارة أوروبا والشرق الأوسط وآسيا، باستثناء البر الرئيسي للصين وهونغ كونغ، في مقابل 23 مليار دولار.
والذي لم يفطن إليه الكثير من الساسة المصريين أن بلاك روك استحوذت ضمن الصفقة على استثمارات هاتشيسون حول مجرى قناة السويس وبعض موانئ مصر، والتي تشمل تشغيل وتطوير محطة حاويات ميناء العين السخنة على مرمى حجر من مدخل قناة السويس الجنوبي ولمدة 30 عاما، وامتياز تشغيل وصيانة محطتي الحاويات الرئيسة في ميناءي الإسكندرية والدخيلة، وهما من أكبر الموانئ البحرية في مصر على البحر المتوسط، ومحطة الحاويات الدولية العملاقة بميناء الإسكندرية، ومحطة حاويات بي 100 في الميناء نفسه.
أما طلب ترامب عبور سفن الولايات المتحدة من القناة فهو غطاء لسيطرة شركات الولايات المتحدة على مرافق خدمات النقل البحري في مصر باعتبارها دولة تمتلك قناة السويس التي تقع على مفترق طرق التجارة العالمية وتربط قارتي آسيا وأوروبا مع إقليم الشرق الأوسط وأفريقيا كما فعلت في قناة بنما. السيطرة على الموانئ والاستثمار في تشغيل وإدارة محطات الحاويات في محور قناة السويس والإسكندرية جاء ضمن مخطط كبير أبرمته إدارة ترامب في بداية حكمه.
ففي مارس/ آذار الماضي، فتحت لجنة الشحن البحري الفيدرالية الأميركية تحقيقًا في نقاط الاختناق في ممرات الشحن البحري الحيوية حول العالم، بما في ذلك قناة السويس المصرية وممرات الشحن الأخرى، لتقييم ما إذا كانت أي دولة أو شركة شحن أو أي مشغل بحري آخر يُهيئ ظروفًا غير مواتية أو معطلة للشحن والتجارة الخارجية الأميركية، من خلال مشاورة تدعو فيها اللجنة مستخدمي صناعة الشحن التجاري البحري الأميركية للرد على أسئلة متعلقة بالخدمات المقدمة في سبع نقاط اختناق في جميع أنحاء العالم والتي تعتقد اللجنة أنها تشكل تهديدًا للأمن الأميركي وتشكل حاجزًا أمام التجارة.
وخلصت اللجنة إلى أن نقاط الاختناق تشمل طريق البحر الشمالي وقناتي بنما والسويس ومضيق ملقا وسنغافورة وجبل طارق والقناة الإنكليزية. وهي ادعاءات باطلة، فندها مستشار شركة دينالينر البحرية الهولندية دارون وادي بقوله إن اللجنة الأميركية أغفلت باب المندب، وخليج هرمز، ومضيق البوسفور، والبحر الأسود، وجميعها أكثر أهمية للتجارة الخارجية الأميركية من نقاط الاختناق التي ركزت عليها، وأن هذا التحقيق يخدم حرب الولايات المتحدة ضد انتشار النفوذ الصيني في الممرات البحرية الحيوية.
وقناة السويس في قلب تلك الممرات الحيوية، وسوف تستهدف الشركات الأميركية الاستثمارات الصينية في المنطقة الاقتصادية المجاورة لمجرى قناة السويس، بالقرب من مدينة السويس، والتي وصلت إلى 3 مليارات دولار، وهي جزء من مشروع الحزام والطريق، وغيرها من الاستثمارات الواقعة حول مجرى القناة وفي منطقة شرق بورسعيد التابعة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس والتي استحوذت عليها أخيرا مجموعة موانئ أبوظبي في مقابل حق انتفاع لمدة 50 عاماً قابلة للتجديد.
